بقلم : محمود خليل
الثقة مطلوبة فى كل علاقة تربط بين طرفين.. بل قل هى أساس هذه العلاقة. ووجود الثقة فى العلاقة بين طرفين لا يعنى حرمان أىٍّ منهما من التوقف أمام أداء الطرف الآخر والتعليق عليه وإبداء الرأى فيه والمطالبة بتغيير الأوضاع التى تثير قلقه.
ونخطئ حين نتصور أن الثقة علاقة من طرف واحد مطلوب منه أن يثق فى الطرف الثانى دون حدود، وأن عليه، حتى فى اللحظات التى يقلق فيها أو يكون له تحفّظات على أدائه، أن يسلم ويواصل الثقة فيه، دون أن يقابل ذلك بجهد يبذله الطرف الثانى فى التوضيح أو الطمأنة.
والثقة كما هى مطلوبة فى العلاقات الإنسانية العادية مطلوبة أيضاً فى جميع نواحى الحياة.. فالإعلام أساسه ثقة الجمهور فى محتوى الوسائل التى تنقل المعلومات إليه.. والاقتصاد جوهره ثقة تاجر فى تاجر أو بائع فى مشترٍ.والأمر نفسه ينطبق على عالم السياسة.
يحلو للبعض فى أحوال استدعاء مشهد خروج الناس فى 9 و10 يونيو لمطالبة جمال عبدالناصر بالاستمرار فى الحكم بعد أن تنحى عن رئاسة البلاد عقب هزيمة 1967، ويدلّلون بهذه الواقعة على جسر الثقة المتين الذى كان يربط الشعب بعبدالناصر حتى وهو مهزوم.
فى غمرة الشغف بهذا النموذج ينسى البعض أن الشباب أنفسهم الذين خرجوا عام 1967 مطالبين عبدالناصر بالاستمرار خرجوا عام 1968 هاتفين ضده ومطالبين بمحاكمات حقيقية ضد المسئولين عن الهزيمة.
وعندما تولى الرئيس السادات الحكم (سبتمبر 1970) كان الشارع المصرى يشعر بنوع من القلق والاضطراب.. فقد قَبِل جمال عبدالناصر بقرار وقف إطلاق النار، وتوقفت معارك الاستنزاف، والأرض ما زالت محتلة، ووقعت البلاد والعباد فى شرك اللاسلم واللاحرب.
عبّر المصريون عن قلقهم من حالة الجمود التى ضربت المشهد بكلمات تهامسوا أو جهروا بها فى قعداتهم، وفى نكات تسللت إلى أذن الرئيس السادات، ثم انفجر المشهد فى مظاهرات صاخبة تطالب الرئيس بالحسم.
كان السادات دائب الحديث عن ضرورة أن يثق الشعب فى قيادته، لكن لم يكن أحد يسمع، وكانت الأصوات تعلو فى كل اتجاه تطالبه بالتحرك، وهو يؤجل القرار عاماً بعد عام.
لم يبذل «السادات» -رحمه الله- الجهد المطلوب فى شرح الموقف أو توضيح الأمور للشعب.. كان يريد منه أن يفهم من تلقاء نفسه.. أو أن يثق فيه دون تفكير، رغم أن الأيام كانت تمضى ولا يفعل شيئاً!
فى المسائل المصيرية -مثل استرداد أرض احتلها عدو- ليس من الوارد أن يصبر الناس بلا حدود.. فكل صبر وله حد.. ذلك هو ما شعر به المصريون أوائل السبعينات، حين خرج شبابهم مطالبين «السادات» بالتحرك من أجل رد الكرامة والاعتبار داخل الإقليم الذى نعيش فيه.
انخفاض منسوب الثقة فى دنيا السياسة له سلبيات كثيرة، كما هو الحال فى جميع المجالات الأخرى.
وعندما يشعر طرف بأن ثقة الطرف المشارك آخذة فى التراجع، فلابد أن يتحرك بسرعة حتى يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.