أوجعت هزيمة العرب أمام الفرس فى موقعة «الجسر» عمر بن الخطاب وجعاً شديداً، وأمام ما سكنه من غضب جراء ما تمخضت عنه من نتائج قرر أن يقود بنفسه جيشاً لمواجهة الإيرانيين، ورحب من حوله من المسلمين بذلك ترحيباً كبيراً، باستثناء علي بن أبى طالب.
من رحب بالفكرة أخذ يردد لعمر أن جيشاً يكون على رأسه لا بد وأنه منصور، ولست أدرى هل عبروا بهذا الكلام عن إحساس بأن بركة النصر ستحل على المسلمين إذا قادهم عمر بفضل سابقته فى الإسلام وبلائه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم عبروا عن وجهة نظر تتعلق بالقدرات العسكرية الخاصة لعمر، أتصور أن التفسير الأول هو المرجح، لأنه لم يكن معلوماً عن عمر قيادة معارك عسكرية، سواء فى تجربته قبل الإسلام أو بعده.
وجهة نظر على بن أبى طالب -فى هذا الموقف- كانت أكثر اتزاناً، فقد حذر «عمر» من قيادة الجيش المحارب للفرس بنفسه، واقترح عليه أن يجعل من سعد بن أبى وقاص قائداً للجيش الزاحف إلى العراق.
نشبت معركة بين العرب والفرس بالقادسية تواصل فيها القتل والقتال لمدة 10 أيام، وانتهت بانتصار جيش سعد بن أبى وقاص. وقد ابتهج عمر بهذا النصر ابتهاجاً عظيماً.
وقد ربح المسلمون فى القادسية مغانم كثيرة، ونال مقاتلوهم مالاً وفيراً وأصابوا الكثير من الذهب والفضة.
ومن الأهمية بمكان أن نتأمل موقف الفرس من العرب، من خلال الحوارات التى دارت بين الطرفين والتشبيهات التى استخدمها رستم القائد العسكرى وكسرى فارس وهما يردان على رسل سعد بن أبى وقاص وهم يخيرونهم بين الإسلام أو الحرب قبل اندلاع المعركة.
يذكر «ابن كثير» أن رستم لما استمع إلى كلام المغيرة بن شعبة وهو يحدثهم عن مطالب المسلمين رد عليه واصفاً العرب بأنهم «كمثل الذباب رأى العسل فقال من يوصلنى إليه وله درهمان فلما سقط عليه غرق فيه، فجعل يطلب الخلاص فلا يجده، وجعل يقول من يخلصنى وله أربعة دراهم».
والوصف يحمل إشارة من جانب رستم إلى طمع العرب فى خيرات الفرس ومالهم وجنانهم وثرواتهم.
وفى فقرة أخرى وصف «رستم» العرب بـ«الثعالب الطامعة»، حين قال للمغيرة: «ومثلكم كمثل ثعلب ضعيف دخل جحراً فى كرم فلما رآه صاحب الكرم ضعيفاً رحمه فتركه، فلما سمن أفسد شيئاً كثيراً فجاء بجيشه واستعان عليه بغلمانه فذهب ليخرج فلم يستطع لسمنه فضربه حتى قتله. فهكذا تخرجون من بلادنا».
ويشير هذا الوصف إلى جانب آخر من نظرة الفرس إلى العرب، حيث كانوا يعتبرونهم مجموعة من الثعالب الذين يعاملهم الفرس بالحسنى والإشفاق بسبب جوعهم، فى إشارة إلى سماح بلاد فارس للعرب بالتجارة والإقامة فيها، وأن الثعالب لما كبرت وسمنت من خير فارس إذا بها تبادر إلى عض اليد التى أكرمتها.
أما كسرى فارس «يزدجرد» فقد وجد حلاً لطيفاً للموقف، إذ يروى «ابن كثير» أنه اقترح على المغيرة أن يعطيه كسوة له، وبالنسبة لسعد بن أبى وقاص يعطيه كسوة وألف دينار ومركوب، على أن ينصرفوا ولا يرى وجوههم بعد ذلك.
الواضح أن قيادات الفرس أساءت تقدير الموقف وعماها غرور الثروة وصلف التاريخ والحضارة عن تقدير قوة العرب وصبرهم على الجهاد والجلاد، ولم يستوعبوا التحول الذى أحدثه فيهم النبى صلى الله عليه وسلم، لذا فقد تعاملوا بنظرة تاريخية مع العرب، بعيدة كل البعد عن الواقع.
كانت إيران أقوى بمقاييس العدد والعدة من العرب، ما ولد لديهم فائض إحساس بالقوة والثقة والغرور والصلف، مثل سراً من أسرار هزيمتهم أمام جيش عربى لا يملك ما يملكون من أدوات، لكنه أكثر تواضعاً، ويرتكز على قناعة عقائدية جعلته أشد انضباطاً، فكان النصر حليفه.
قاتل العرب الفرس داخل المدائن حتى وصلوا إلى قصر يزدجرد، فاضطر إلى الفرار إلى مدينة «حلوان» فطاردته قوات سعد بن أبى وقاص، وانطلق العرب يحتلون المدينة بعد الأخرى من مدائن الفرس حتى تمكنوا فى النهاية من السيطرة على إيران بأكملها.