بقلم : محمود خليل
الحياة ثقافة.. والموت أيضاً ثقافة. الإنسان موعود بالشقاء فى الحياة. وهو فى كل الأحوال مطالب بالصبر عليه وتحمله، وجهد النفس فى إزالة أسبابه وأعراضه، والاطمئنان إلى أنه يسعى على الأرض تحت سماء رب رحيم قادر على شموله برحمته فى أى لحظة. الشقاء هو الحالة الطبيعية للإنسان «فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى».. «لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِى كَبَدٍ». ومن الشقاء يولد الصبر «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ». ومن الصبر المشفوع ببذل الجهد تتدفق نسمات الرحمة «إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ». الإنسان العادى مدفوع إلى التمسك بالحياة، مهما كانت درجة معاناته فيها، فغريزة البقاء تتفوق فى أغلب معارك البشر على غريزة الفناء. وقد وجَّه القرآن الكريم الإنسان إلى الحفاظ على حياته ونهاه عن السعى إلى إزهاقها بيده مهما كانت الظروف «وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً». فى كل الأحوال لا ييأس الإنسان -عندما ييأس- من رحمة ربه، بل من رحمة البشر المحيطين به. وفكرة الانتحار مرتبطة بالأساس باليأس من الحياة وليس اليأس من خالق الحياة. فرحمة الله تشمل الجميع «قُلْ يَا عبادى الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ».
لا يصح أن يكون موضوع الانتحار مجالاً للتعريض الدينى بشخص المنتحر أو للتشكيك فى إيمانه. فكل نفس فيها ما يكفيها. وأى إنسان عرضة للتعب والإرهاق النفسى. أنبياء الله تعالى عانوا فى أحوال من متاعب الدنيا وضاقت نفوسهم بمشكلات البشر والحياة. نبى الله موسى، عليه السلام، كان يغضب «وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً»، ونبى الله نوح يئس من قومه «وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً»، ويونس، عليه السلام، ضجر من قومه ولم يصبر لحكم ربه فكان مصيره إلى بطن الحوت «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُن كَصَاحِبِ الْحُوتِ». والنبى محمد، صلى الله عليه وسلم، كان الله تعالى يثبته «وَلَوْلَا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً». كل البشر عرضة للإرهاق النفسى والكل بين يدى رحمن رحيم. والطريقة التى يستجيب بها الإنسان لتداعيات هذا الإرهاق مدارها الثقافة السائدة.
عبر تاريخه عاش المصرى بثقافة «حب الحياة»، وليس أدل على ذلك من طول عمر الدولة المصرية الذى يعد بآلاف السنين. المصريون من أقدم شعوب الأرض، وما أكثر ما دقت فوق رؤوسهم طبول، وما أكثر ما واجهوا من مشكلات صمدوا فى وجهها فى وقت كانت تندثر وتتحلل وتتفكك شعوب أخرى من حولهم عند مواجهة واحدة منها. ومن فرط حب المصرى القديم للحياة فقد رأى فى الموت حياة، وكان يعد كل أدوات الحياة لتصحبه فى رحلته إلى العالم الآخر. تلك كانت الثقافة السائدة على مدار قرون طويلة من الزمان حتى خرج علينا من يزيف وعى الناس بالدنيا والدين فأعلى ثقافة الموت على ثقافة الحياة. ومعادلة التزييف بسيطة جداً وتتأسس على المتاجرة بآلام الناس ومعاناتهم وتكريس إحساسهم بها والشماتة فيما يصيبهم من مصائب الحياة، وبدلاً من توعيتهم بالصبر والتحمل يسممون وعيهم وإحساسهم بالحياة ويدفعونهم دفعاً إلى دوائر موت مجانى.