بقلم : محمود خليل
انتصرت مصر سياسياً على قوى العدوان الثلاثى عام 1956 أكثر مما انتصرت عسكرياً. وقد استثمر عبدالناصر هذا النصر بشكل مدهش، وجعل منه قاعدة أسّس عليها شعبية جارفة بين المصريين، وخصوصاً من الشباب أبناء الأجيال الجديدة التى تفتّح وعيها على الحياة بعد عام 1952. كان جيل الكبار هو الآخر ينظر إلى ما يحدث فى دهشة ويقارن بين رجال الثورة الذين تحوّلوا إلى ساسة، والساسة القدامى الذين دخلوا حظيرة النسيان. المقارنة أفضت بالبعض إلى إحساس بأن «عبدالناصر» الشاب المفعم بالحيوية والحماس يمتلك قدرات خارقة مكّنته من تحقيق ما عجز عنه جيل العواجيز، والبعض الآخر تشكك فيما يحدث وأخذ ينذر من سيطرة الوهم على عقل شعب يوشك أن يصل به إلى كارثة.
التاريخ يقول إن المشهد المصرى بعد عام 1956 كانت تختلط فيه الحقائق بالأوهام. فقد تمكّن عبدالناصر من تحقيق إنجازات غير مسبوقة داخلياً وخارجياً. خرج الإنجليز من مصر، وتمكّن الزعيم من إشعال حماس الأمة فى مواجهة قوى العدوان الثلاثى، وتحقق العديد من المكاسب للعمال والفلاحين والموظفين والشباب والمرأة، وانطلقت حركة إعمار وتصنيع، لكن عناكب الوهم بدأت تنسج خيوطها عند الحد الذى أخذت فيه الأصوات تلهج بفكرة «مصر القوية». وهى الفكرة التى تؤكد الأحداث أنها كانت تجول فى ذهن عبدالناصر، فقد كان يحلم بدولة مصرية قوية تقود العرب، وهو نفس الحلم الذى جال فى مخيلة الوالى محمد على الكبير. الاثنان اتفقا فى الحلم، لكن البون على مستوى الرؤية والقدرة على خلق الأدوات وبناء الخطط وتنفيذها فى الواقع كان كبيراً.
عبر سيطرتها على أداتَى التعليم والإعلام عمدت القيادة الناصرية إلى رسم صورة لمصر فى مخيّلة الجماهير تختلف اختلافاً بيّناً عن أوضاع الواقع. ففى الوقت الذى كان يتندر فيه الشارع المصرى بحكايات السيدات اللائى كنّ يستقبلن جنود المظليين الإنجليز بأيدى «الهون» و«غطيان الحلل» فيقتلنهم حيث ثقفنهم، كان صراع مكتوم يدور بين عبدالناصر وعبدالحكيم عامر، فلم يكن الأول راضياً عن أداء الثانى كوزير للحربية فى معركة 1956. وحقائق التاريخ تقول إن التدخل الروسى لوقف القتال ودعوة قوى العدوان للانحساب كان العامل الحاسم فى توقف الحرب. وخلافاً للصراعات المعلنة التى خاضها عبدالناصر والإخوان على السلطة بعد ثورة 1952، ووصلت إلى ذروتها عام 1954، لم يكن الشعب على علم بما يجرى على قمة السلطة بعد العام 1956، وقد بانت آثار الصراع بين فرسَى الرهان «الرئيس والمشير» فى ملف الوحدة مع سوريا، ثم فى ملف حرب اليمن.
سخّر الإعلام كل طاقاته وقدراته فى تكريس خيالات «مصر القوية» داخل الوجدان المصرى بهدف حشد الشعب وراء القيادة، ولعبت كلمات الشعراء دور المنشورات الدعائية التى يتم توزيعها عبر حناجر كبار المطربين حينذاك. سيطر الخيال على المزاج المصرى بصورة عطّلته لبعض الوقت عن رؤية الواقع، وأصبح يكذّب عينيه، ويصدّق أذنيه. كان المواطن البسيط متسقاً مع نفسه، فالغالبية وجدت فى القرارات التى اتخذها عبدالناصر نجاة لها من الجوع الاقتصادى، وحين تمتلئ البطن بخبز الاقتصاد يزهد العقل فى صداع السياسة.