بقلم: د. محمود خليل
حاولت فكرة «المحمدية» منافسة فكرة «الإسلام» بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، لكن الله شاء أن توأد فى مهدها. فى سياق هذه المنافسة قد تجد تفسيراً لحالة «الرِّدة» التى ضربت العديد من القبائل العربية، وهى الحالة التى واجهها الخليفة الأول أبوبكر الصديق فيما عُرف بحروب الردة.
فالوفود العربية التى تدفقت على المدينة بعد وفاة النبى أقرّ أعضاؤها بالصلاة، لكنهم امتنعوا عن أداء الصدقات التى كانوا يؤدونها إلى محمد، واحتجوا بقوله تعالى: «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ». قالوا: فلسنا ندفع زكاتنا إلا إلى من صلاته سكن لنا.
الرِّدة فى أحد جوانبها كانت تعبيراً خفياً عن «المحمدية» وإيمان طائفة من العرب بأن هناك أموراً معينة فى الإسلام كانت تخص النبى، مثل أمر الصدقات التى كان يأخذها صلى الله عليه وسلم منهم، وأنها لا تجوز بعد ذلك لغيره. لم تأتِ العبارة التى جلجل صوت أبى بكر بها بعد وفاة محمد من فراغ. فقد صرخ فى العرب: «من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حى لا يموت». حملت العبارة تفرقة واضحة بين «المحمدية» والإسلام.
تمكّن أبوبكر من وضع الأمور فى نصابها بعد وفاة النبى، وحمى الإسلام من التحول إلى «محمدية» لا يفرق معتنقوها بين الإيمان بالله سبحانه وتعالى وكتابه الكريم ومحمد صلى الله عليه وسلم كإنسان اصطفاه الله لحمل رسالته إلى البشر. وكان التحذير الذى أطلقه من أن يتحول المسلمون إلى «عبادة محمد» واضحاً.
ولك أن تتصور أن فكرة «التماهى» مع شخص محمد صلى الله عليه وسلم تجاوزت فى عصور لاحقة مسألة الاقتداء به كرسول: «لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ» إلى التماهى به كإنسان قادر على خرق العادة. وقد حدث ذلك فى عصر عثمان بن عفان حين خرج عبدالله بن سبأ -الذى يلقبه كتّاب التراث بـ«ابن السوداء»- يقول برجعة النبى إلى الحياة ويردد قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ».
يذكر «ابن كثير» أن «ابن سبأ» وفد إلى مصر وكان يردد بين أهلها: «العجب ممن يصدق أن عيسى يرجع، ويكذّب أن محمداً يرجع، فوضع لهم الرجعة، فقُبلت منه، ثم قال لهم بعد ذلك: إنه كان لكل نبى وصى، وعلىٌّ وصى محمد، فمن أظلم ممن لم يُجِز وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووثب على وصيِّه، وإن عثمان أخذها بغير حق، فانهضوا فى هذا الأمر وابدأوا بالطعن على أمرائكم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر تستميلوا به الناس».
وتشير العديد من كتب التراث إلى أن عبدالله بن سبأ أظهر مغالاة فى محبة علىِّ بن أبى طالب والدفاع عنه، بل وإنزاله منزلة لا يرقى إليها بشر، إذ زعم بعد استشهاد علىٍّ بخنجر عبدالرحمن بن ملجم أنه يعيش فى السحاب، وأن الرعد صوته.
فالشخصنة أقصر الطرق إلى التخريف.