يميل المزاج الأدهمى إلى فكرة «القسمة إلى فريقين». فالأداهم فريق لا بد أن يقابله فريق مضاد أو معاكس. فمنذ اللحظة الأولى التى نزل فيها «أدهم» إلى الخلاء قرر -كما يحكى نجيب محفوظ فى «أولاد حارتنا»- أن يضع خطاً فاصلاً بينه وذريته من ناحية، وأخيه «إدريس» وذريته ومَن التفَّ حوله من ناحية أخرى.
ومن يومها صار فى الخلاء فريقان: «فريق الأداهم» و«فريق الأدارسة»، وظل الفريقان فى حالة «عراك أبدى»، وكانت «المفاصلة» هى العنوان الأبرز للعلاقة بينهما.
أعاد الأداهم المصريون إنتاج الفكرة أيام الثورة العرابية فانقسموا إلى فريق «العرابيين» وفريق «الجراكسة.. الأبالسة»، وانقسموا أيام ثورة 1919 إلى «سعديين» و«عدليين»، وهكذا استمرت الحال.
الشيخ حسن البنا كان واعياً بهذا الوتر من أوتار «المزاج الأدهمى» فمال منذ اللحظة الأولى إلى العزف عليه، فلم يكتفِ بتسمية جماعته بـ«الإخوان» بل قرر أن يصف نفسه وإخوانه بـ«المسلمين» حتى يستقل بهم كفريق منفصل عن غيرهم ويعرّض بإسلام مَن يغردون خارج سرب الجماعة.
ففريق الجماعة هو الذى يملك الفهم الصحيح للإسلام، وإسلامهم ليس إسلاماً بالاسم كما هو حال غيرهم، بل إسلام بالقول والعمل كما يزعم الإخوان.
كان «البنا» حريصاً على تمييز أتباعه ومريديه عن غيرهم من المصريين.
يقول محمود عبدالحليم فى «أحداث صنعت التاريخ» إن المرشد قرر إبراز الإخوان باعتبارهم فئة مميزة فتم اقتراح أن تكون الخطوات الأولى لذلك ممثلة فى ابتكار «شارة» خاصة بالجماعة، فكانت شارة السيفين المتقاطعين وبينهما المصحف وأسفل السيفين كلمة «وأعِدوا»، كذلك قررت الجماعة إصدار مجلة تخاطب من خلالها الفريق الذى يلعب معها أو يتعاطف مع أفكارها.
«النفَس العثمانلى» كان واضحاً فى تفكير حسن البنا، فقد استرشد فى فكرة قسمة الأداهم المصريين إلى فريقين بتجربة سليم شاه العثمانى الذى فتح مصر.
يحكى «الجبرتى» فى «عجائب الآثار» أن السلطان سليم شاه جلس ذات يوم وحوله أصدقاؤه من الأمراء الخونة الذين ساعدوه على دخول مصر، ومن بينهم خير بك وسألهم: هل يا ترى بقى من جنس الجراكسة أحد نراه؟.
رد عليه خير بك: نعم.. هناك رجل يسمى سودون، طاعن فى السن، رزقه الله ولدين شهمين بطلين لا يضاهيهما أحد فى الميدان ولا يناظرهما فارس من الفرسان، ولما علم بدخول عسكر الترك إلى مصر ترك التجارة وحبس ولدَيه بالدار وسد أبوابه بالأحجار، وخالف العادة، واعتكف عن العبادة.
حدوتة الجركسى «سودون» أعجبت السلطان سليم شاه، فذهب إليه وسأله عن سبب عزلته؟.
فأجابه: «إنه لما رأى فى دولتهم -أى دولة الجراكسة- اختلال الأمور وترادف الظلم والجور علم أن أمرهم فى إدبار ولا بد لدولتهم من الدمار فقرر العزلة هو وولداه الأميران فى الدار».
أراد سليم شاه أن يرى الأميرين ابنى «سودون» بعد ذلك، وهما الأمير ذو الفقار والأمير قاسم الكرار، فحضرا، فرأى فيهما سليم شاه مخايل الفرسان الشجعان، وخاطبهما فأجاباه بعبارة رقيقة وألفاظ رشيقة فأعجب بهما.
التمعت فى رأس «سليم» فكرة يستطيع من خلالها إخضاع مصر إلى الأبد، مستغلاً فى ذلك ما أكدته له التجربة من أن هزيمته المصريين تمت بفعل خيانة مجموعة من الأمراء للسلطان قنصوه الغورى، ما يعنى أن أمراءها قابلين للقسمة على اثنين.
فى هذه اللحظة قرر سليم أن يكون فى مصر فريقان: «الأبيض» و«الأحمر»، ويكون الأبيض تحت قيادة «ذو الفقار»، والأحمر تحت قيادة «قاسم الكرار»، على أن ينضوى تحت لواء كل منهما فريق من الأمراء يتصارعون فيما بينهم، ويتلهون بالصراع عن عدوهم الحقيقى: «سليم شاه».