بقلم: د. محمود خليل
منهجية لطيفة يتبعها بعض المصريين فى مواجهة المشكلات، يمكن وصفها بمنهجية «حلاوتها فى بساطتها»، وهى نفس المنهجية التى اعتمد عليها بطل فيلم «ابن القنصل» عندما واجه مشكلة استخراج جواز سفر «مضروب» لبطلة الفيلم، فلم يلجأ إلى تزوير الجواز نفسه، بل إلى تزوير الأوراق المطلوبة لاستخراج الجواز، ثم استصدره بصورة رسمية دون أدنى مشكلة. رغم أن الحسابات المنطقية تقول إن احتمالات اكتشاف التزوير فى 10 وثائق أعلى من احتمالات اكتشافه فى وثيقة واحدة. هذه الطريقة فى التفكير ومعالجة المشكلات تصلح للأفلام العربى التى تعتمد على الخيال الافتراضى، أما فى عالم الحقيقة والواقع فالأمر يختلف، ومؤكد أن العديد من المشكلات التى توجع المجتمع من الصعب أن تحل بهذه الطرق البسيطة، خصوصاً أن أغلبها يرتبط بأسباب شديدة التعقيد.
دعنا نضرب مثالاً على ما نقول بالأفكار التى بدأ البعض بطرحها فى مواجهة مشكلة ارتفاع معدلات الانتحار بين المصريين خلال الفترة الأخيرة. البعض تبنى حل «الكلمة الطيبة»، وذكر أن تحسين العلاقات بين البشر وحرصهم على تهوين مشكلات بعضهم البعض بالكلمات الطيبة بوابة يمكن الولوج منها إلى التقليل من حالات الانتحار. آخرون رأوا أن الحل فى دعم فكرة العودة إلى حظيرة الإيمان، لأن الإيمان يمثل حصناً حصيناً يحول دون سقوط المرء فى براثن المشكلات النفسية ويمنعه من قتل نفسه، لأن الدين يحرم ذلك. بعض المؤسسات الجامعية لجأت إلى حل ثالث فأعلنت عن تنظيم ندوات ومؤتمرات وإنشاء مراكز بحثية لمعالجة هذا الطارئ الجديد على حياة المصريين.
لا أنكر النوايا الطيبة والرغبة الأمينة لدى أصحاب هذه الحلول لمواجهة المشكلة التى توجع الجميع، لكن يبقى أن الحلول المطروحة طبقاً لمنهجية «حلاوتها فى بساطتها» لن تحد من المشكلة أو حتى تقلل من تداعياتها وآثارها. فهى تعكس فى أغلبها «ميولاً استهلاكية» لدى البعض، و«ميولاً استعراضية» لدى البعض الآخر، فالمجتمعات التى تعلو فيها قيمة المال على ما عداها وتتحكم فيها رذيلة الاستهلاك محكوم عليها بالتردى القيمى، وبالتالى فأى حديث عن أخلاقيات أرقى فى التعامل وتبادل الكلمات الطيبة بين أهلها قبض ريح، لأن ضغوط الرغبة فى الهبش وسرقة الفرص واقتناص المغانم سوف تصرف الغالبية عن الاكتراث بالأمور الأخلاقية أو الطبطبة على غيرهم. والحديث عن أن العودة إلى حظيرة الإيمان هى الحل هو أيضاً حديث استهلاكى، لأن مساحة «الإيمان اللسانى» تزيد على مساحة «الإيمان بالقلب والنفس» لدى الكثيرين. وأخشى أن أقول إن «التدين» لدى بعض المصريين أصبح «حالة استهلاكية» ليس أكثر. أما المؤتمرات والندوات وخلافه فتعبر عن التوجه الاستعراضى لدى قيادات بعض المؤسسات الجامعية. فبعض -أقول بعض وليس كل- رؤساء الجامعات وعمداء الكليات يستثمرون المشكلات التى تواجه الشباب كوسيلة لتقديم أنفسهم للقيادة الأعلى أو كأداة للنفاق الاجتماعى.
علينا أن نعترف أن المشكلات التى تكرست عبر سنين لن تحل بكلمة طيبة أو بندوة لوذعية أو بدعوة دينية. المجتمع المصرى يحتاج إلى ثورة ثقافية شاملة تستعيد الدور التربوى للأب والأم داخل الأسرة، والدور التوعوى للأستاذ والمعلم داخل الجامعة والمدرسة، والدور التنويرى للإعلام، والدور الإنسانى للمؤسسات الدينية، والدور الرعائى لمؤسسات الدولة. نحن بحاجة إلى ثقافة جديدة تعيد للعقل هيبته، وللعلم احترامه، وللمجتهد حقه ونصيبه العادل فى نيل الفرص، وللقانون عدله، وللكبير دوره فى رعاية الصغير، وللصغير واجبه فى احترام الكبير. ذلك هو الطريق الصعب الذى علينا أن نسلكه، وكفانا رفعاً لشعار: «ليه تدفع أكتر ما دام ممكن تدفع أقل»!.