بقلم: د. محمود خليل
خلال عقود الثلاثينات والأربعينات والخمسينات والستينات من القرن الماضى تربّع على عرش الغناء العربى مطربات ومطربون كبار، أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم وشادية وفايزة ووردة ومحرم فؤاد وغيرهم. كان الفن الشعبى موجوداً فى إنتاج محمد عبدالمطلب وسيد الملاح وشفيق جلال، والموال الشعبى كان حاضراً أيضاً فى إنتاج بدرية السيد والريس حفنى وخضرة محمد خضر. لأسباب متعددة اكتملت خارطة الإبداع فى ذلك الوقت بصورة لم تتكرّر فى تاريخنا. أمور كثيرة اختلفت فى دنيا المغنى والطرب أواخر الستينات، حين اهتز العقل المصرى هزة عنيفة عقب نكسة 1967.
ما حدث -بعد النكسة- ببساطة هو أن الأشياء فقدت معناها فى نظر الجمهور، وبعد سنين طويلة قضاها فى تأمل المعانى التى يكتبها رامى ومرسى جميل عزيز وأحمد شفيق كامل وصالح جودت وحسين السيد وصلاح جاهين والأبنودى ومواويل بدرية السيد وحفنى أحمد حسن وغيرهم وغيرهم، بدأ يبحث عن اللامعنى، فانتشرت أغانٍ مثل سلامتها أم حسن وأمّه نعيمة والطشت قال لى. فى فيلم ثرثرة فوق النيل حضرت ميرفت أمين، التى كانت تؤدى دور فتاة جامعية تبحث عن فرصة فى مجال التمثيل، مشهداً يلعب فيه أحمد رمزى دور فتاة ترقص على أنغام «الطشت قال لى»، فسألته «هو الطشت قال لى بتعبر عن إيه؟!» فرد عليها: «بتعبر عن أزمة انقطاع المياه فى الأدوار العليا»!. ولو أنك قرأت النص المكتوب لرواية «ثرثرة فوق النيل» فسوف تجد عبارة شديدة الدلالة كان أنيس زكى -كبير الحشاشين- دائم الثرثرة بها فى مواجهة ما يحدث فى الواقع: «يا أى شىء افعل أى شىء قبل أن يقتلنا اللاشىء». كانت مصر تعيش حينذاك فى دنيا «اللاشىء». لم يعد للبحث عن معنى فى كلمات الأغنية أو الصوت الذى يغنيها أو النغمات التى تصحبها أمر ذو بال، بعد أن عاش الجمهور ردحاً طويلاً من الزمان مخدوعاً بالمعانى التى حملتها بعض الأغنيات. واحد من أشهر كتاب الأغانى حينذاك -وهو المبدع صلاح جاهين- قالها صراحة: «لقد خدعنا الناس». فالمعانى المضللة لا تقل سفاهة عن المعانى التافهة. فى ذلك الوقت بدأ الجمهور يبحث عن التفاهة، عن كلمة ولحن وأداء لا يدعوه إلى التفكير والتأمل، بل إلى التهريج.
ومع وفاة أغلب نجوم الفن الغنائى الكبار خلال فترة السبعينات بدأت المساحات الشاغرة تزيد، فتسابقت العديد من الأصوات التى ظهرت ودوّت شهرتها بين المصريين على ملء الفراغ. بعض الإنتاج كان جيداً، لكن فكرة البحث عن الجودة كانت قد تراجعت فى ذهن الجمهور. فتجربته مع الجودة كانت خادعة، أما التفاهة فتتناغم مع العقل الباحث عن التوهان. والأجيال التى عاصرت مطربينا الكبار، ولم تزل تطربها أغانيهم حتى الآن لا يبحثون عن إبداع يحمل معنى قدر ما يبحثون عن جزء من ماضيهم، يحنّون إليه فى لحظات. الإبداع الناجح أساسه أمران: الصدق من جانب المبدع، والذوق من جانب المستمع. قديماً تحدّى طه حسين -رحمه الله- فرضية أن «أجمل الشعر أكذبه»، وتمسّك بالفكرة العكسية التى تقول «أجمل الشعر أصدقه». وزمان سأل الإعلامى مفيد فوزى الموسيقار محمد عبدالوهاب: «هل مات الفن».. فرد عليه «مات الفن عندما مات الجمهور».