بقلم: د. محمود خليل
الثوب فى نظر «أدهم» عنوان على صاحبه. يحكى نجيب محفوظ فى رواية «أولاد حارتنا» أنه لما نزل «أدهم» مطروداً من البيت الكبير إلى الخلاء، كان أول ما فكر فيه أن يخلع ثوب البيت الكبير المكون من جلباب حريرى ناعم وعباءة كشميرية زاهية. هذا الثوب لم يعد يستقيم مع حياته الجديدة التى وجد نفسه فيها جزءاً من حرافيش الخلاء وبائع «خيار» متواضع الحال. ارتدى «أدهم» زياً يتناسب مع مقتضى الحال الجديدة التى وجد نفسه فيها. جانب من الروح الأدهمية دفع الشيخ حسن البنا إلى اختيار مظهره وصياغة منظره بعناية وبصورة تحمل رسالة معينة إلى نوع «الأداهم» التى قرر السعى لاستقطابها لتعمل تحت راية جماعته. يسجل محمود عبدالحليم -أحد كبار الأعضاء المؤسسين للإخوان وواحد من أشهر مؤرخيها- أنه التقى الشيخ البنا لأول مرة بمنزل كان يقطن به بحارة الروم، فوصفه قائلاً: «شاب أبيض الوجه مستديره، ذو لحية سوداء، يرتدى بدلة وعلى رأسه طربوش، فكان هذا منظراً عجيباً حيث لم يكن مألوفاً فى ذلك الوقت أن يكون أحد معفياً لحيته إلا ويرتدى جبة وقفطاناً».
هيئة حسن البنا أثارت دهشة محمود عبدالحليم، لكنه لم يجتهد فى تفسير ما أثار عجبه، ولم يفهم المغزى من وراء الزى الذى اختاره «البنا» وجعل اللحية عنواناً له. الهيئة تختار زبونها، والأزياء كالطيور على أشكالها تقع. رسم حسن البنا هيئته بعناية وبشكل يحمل رسالة معينة تشى بالعناصر الأدهمية التى قرر استقطابها إلى جماعته. البدلة كانت تختار صغار الأفندية من الطلاب والموظفين المحدثين، أما اللحية فقد كانت تختار البسطاء من العمال والحرفيين وأهل القرى. إنهم الصغار الأقل تعليماً ووعياً وقدرة اقتصادية ومنزلة اجتماعية. هم ببساطة «حرافيش الأداهم» الذين تحدث عنهم نجيب محفوظ فى روايته «الحرافيش» وراهن على امتلاكهم قوة ذاتية خطيرة إذا تحركوا ككتلة واحدة.
«الحرافيش»، كما وصف نجيب محفوظ سيرتهم، هم غالبية «الأداهم» الذين يعيشون فوق أرض المحروسة، من الطبقات الفقيرة والشريحة الدنيا من الطبقة المتوسطة، وثمة مجموعة من السمات المشتركة التى تجمع هذا الشتات، يتحدد أولها فى «المظلومية»، فالمظالم أكثر ما يسود حياتهم، والشكوى من الواقع أكثر ما يتردد على ألسنتهم. وثانيها التدين اللسانى، فالعجز عن مواجهة محن الأرض يدفع هؤلاء إلى الاستدعاء المستمر للسماء، ولكن لأن الإحساس بالظلم تمكن من نفوسهم فهم لا يتورعون عن العدوان على غيرهم، متى أتيحت لهم الفرصة، ولأن تدينهم لسانى فهم لا يتوانون عن إسقاط تعاليمه من تفكيرهم وهم يظلمون، السمة الثالثة تتمثل فى الحلم بظهور فتوة عادل يمتاز بالقوة ويتعامل مع الجميع بميزان عدل، وقد ورثوا عن أجدادهم «الأداهم» أن خير نموذج على ذلك تحقق فى عصر الخليفة عمر بن الخطاب، رضى الله عنه.
لم يفكر «الحرافيش» فى حل ينبع منهم، ليغيروا أوضاعهم، ويحققوا العدل فيما بينهم، وليمنحوا المعانى السامية للدين فرصة للتمكن من نفوسهم ويتركوا اللكلكة فيه باللسان. دائماً ما كانوا يحلمون بخروج واحد من صفوفهم يعمل وحده ليعيد التوازن إلى حياتهم الكسولة المهتزة، الحياة التى تزينها الأحلام الأدهمية بوفرة الخبز وخلو البال الذى يدفع بصاحبه إلى التمدد فوق أرض الحديقة والسُكر بالكلام والأنغام التى تطرب الأذن. أدرك حسن البنا تلك الحقيقة فى هذا الرهط المترهل من «الأداهم» فقرر غزوهم.