بقلم: د. محمود خليل
كانت فترة ما بين الحربين العالميتين فترة صراع سياسى وثقافى كبير، تنوعت فيها أسماء الساسة والمفكرين التنويريين، وعلى ألسنتهم وفوق سطور مؤلفاتهم سالت العديد من الأفكار المفيدة البناءة، لكنها لم تبرح الألسنة والسطور إلى صدور الأداهم. والسر فى ذلك أن أغلب الأسماء الكبرى التى ظهرت على مستوى السياسة والفكر حينذاك ربطت نفسها بالسلطة أكثر مما وثقت علاقتها بالشارع، انطلاقاً من رؤية تذهب إلى أن التغيير الثقافى هَم لا بد أن تتبناه السلطة لتعيد صياغة الواقع، أما هُم فيكفيهم جداً إنتاج الأفكار وتسويقها لدى السلطة ونيل المكافأة على ذلك، لذا ففى اللحظة التى كانت تعج فيها سماء «الأدهمية المصرية» بالعديد من الأسماء التى لمعت فى مجال التنوير، كانت أرضها تعيش نهباً للخرافة والفهوم المغلوطة للدين والدنيا، ناهيك عن المظالم. لم يفكر أحد فى النزول والتحرك وسط هذه الطبقة العريضة من «حرافيش الأداهم» ليأخذ بيدهم إلى الأمام، فقط الشيخ حسن البنا هو الذى قرر النزول ليأخذ بيدهم، ولكن إلى الماضى أو الخلف.
ذهب حسن البنا إلى بسطاء «الأداهم» حيث يوجدون، فى المساجد والزوايا، فى المقاهى والمدارس، وحتى الجامعات ذهب إليها، بدأ من الإسماعيلية ثم انتقل إلى القاهرة، ومن القاهرة أخذ يتحرك فى كل المحافظات، ليجند الأتباع من هنا وهناك، وفى كل مكان يذهب إليه كان يترك خلفه شعبة من شُعب الإخوان تنشط فى تجنيد أبناء المنطقة الكائنة بها. تندر الشيخ «البنا» ذات يوم بأن الأدهم الإخوانى الذى يعطس فى الإسكندرية يقول له أخوه الأدهم الأسوانى: يرحمكم الله. أسكر البنا آذان مستمعيه من «حرافيش الأداهم» بأحاديث لا تنتهى عن أنهم أعز خلق الله وأنهم ليسوا ضعافاً كما يتصورون، بل هم أقوياء بإيمانهم، «رب أشعث أغبر لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره». إنها رسالة ساحرة لأقوام منغمسين فى حياة فوضوية رديئة يستخلصون منها أن القيمة ليست فى العلم ولا فى التقدم الذى يسبح فى بحاره المحتل الغربى، القيمة فى إطلاق اللحية، وارتداء الجلباب، وإحياء سُنة المسواك، ومد الأرجل فى المساجد بالساعات، وتجنيد غيرهم وجذبهم إلى العالم الجديد الذى يصنعه الشيخ المطربش.
إنها حالة أرضت الأداهم كل الرضاء، حالة تختلط فيها فكرة الاعتزاز بالذات الضعيفة المهانة التى تحيا فى وسط متردٍّ، بإطعام الفم من خلال جلسات الطعام والشراب المشترك التى يتصدرها الثريد «طاجن الفتة»، بقعدات الأنس والونس الذى يجده «الأدهم» عبر اختلاطه مع أفراد أسرته أو شعبته الإخوانية، بإحساس بتحقيق السيادة يشعر به الأخ المسئول الذى يدين له بقية مجموعته بالسمع والطاعة، بالتماهى بشخص المرشد الذى يقول عنه محمود عبدالحليم فى كتابه «أحداث صنعت التاريخ» إنه لم يعرف مقام النبوة إلا عندما احتك بحسن البنا!. إنها حالة فريدة من نوعها تمكن فيها شخص من النزول إلى الخلاء الذى يعيش فيه الأداهم ويتلاعب بعقولهم ويقدم لهم صياغته الخاصة لمعادلة «الخبز والهدوء» المولعين بها. لقد امتلك سعد زغلول القدرة على التأثير فى الأداهم بخطبه الطنانة الرنانة، كان يعلم أن الناس تكتفى بالاستماع والطرب ولا يتحركون بعد ذلك، تماماً مثلما وصف عدلى يكن حاله ذات يوم بقوله: ««سعد باشا يقول كلاماً بديعاً، لكنه مع الأسف يخاطب جماعات كأعمدة السكك الحديدية»، كان الزعيم يعلم ذلك ويكتفى بالكلام لأنه رجل سياسة، أما حسن البنا فقد قرر أن ينزل إلى أرض الأداهم ويتفاعل معهم مباشرة، لأنه أراد تجييشهم وتكتيلهم، وتحويلهم إلى «نبوت» يفرض به ما يريد على من يريد.