بقلم: د. محمود خليل
كعادتها دأبت الحكومات التى تعاقبت على الأدهمية منذ منتصف التسعينات وما تلاها من حقب على معايرة «الأداهم» بما يقتنونه من أجهزة «موبايل»، وما ينفقونه على كروت الشحن، فى وقت يشكون فيه الفقر، ويطالبون الحكومة بالإنفاق عليهم ودعم السلع الأساسية التى يحتاجون إليها. وجر حديث الموبايل الحكومة إلى أحاديث أخرى تواترت على ألسنة المسئولين حول عدد التكييفات التى يقتنيها الأداهم فى بيوتهم وازدحام المولات والسوبر ماركت بالزبائن، فى حين يزعمون أنهم فقراء مساكين يحتاجون إلى نظرة عطف ورضا من الدولة. أصبح الموبايل مصدر معايرة وتبكيت للأدهم من جانب الحكومة التى أمسى لسان حالها ينظر إليه على أنه «غنى طامع» فى مال الحكومة «الغلبانة»، التى تجتهد بكل الطرق فى سد العجز فى الموازنة.
الأرقام التى كانت تصدر عن الحكومة طوال العقد الأول من الألفية الجديدة كانت تؤكد أن عدد المشتركين فى شركات الموبايل يُعدون بالملايين، وأن الخطوط المفعّلة تغطى نسبة تتجاوز الـ90% من سكان الأدهمية. فقد شغف الأداهم بهذا الصغير الجديد كل الشغف، وأصبح جل همهم ومبلغ عملهم. كانت الحكومة تنشر هذه الأرقام لمعايرة الأداهم كما ذكرت لك، رغم أنها تعلم أن ما يحدث فى الأدهمية تكرّر لدى كل شعوب العالم بنسبة أو بأخرى، وفى الوقت نفسه كانت تخفى المكاسب الطائلة التى تعود عليها وعلى رجال الأعمال المتحالفين معها، من هذا الانتشار المدوى لخطوط الموبايل. فقد تحول الاستثمار فى هذا المجال إلى ماكينة جلب أرباح طائلة.
وكما هو معتاد فى الأدهمية المباركية، توجّهت آلة جمع المال العاملة فى مجال خدمات الموبايل إلى الشريحة الأعلى اقتصادياً من الأداهم، وبعد اتخامها بالخدمة اتّجهت إلى الشريحة المتوسطة، ثم إلى الشريحة الدنيا. وأصبح كل جنيه فى جيب مواطن تحت الاستدعاء، لكى تلتهمه الآلة التى لا تتوقف عن العمل. فالشحن بـ100، ومن لم يستطع يدفع 50، ومن لم يستطع يدفع أقل فأقل، إلى أن يصل إلى اللحظة التى يشحن فيها «عَ الطاير» ولو بنصف جنيه. أصبح شعار «اتكلم براحتك» من الشعارات التى تردّدت على اللسان الأدهمى حينذاك. انطلقت الإعلانات تحرّض الأدهم على «الرّغى فى الموبايل»، مستخدمة كل الاستمالات الممكنة. تحولت بعض الأغانى الشهيرة إلى مادة للإعلانات المحرّضة على الرغى: «نحب نتعرف.. ورانا إيه.. ورانا إيه!»، بل لقد فاق الأمر كل الحدود فى أحد الإعلانات الذى حثّ الأداهم على دعاء الخالق من خلال خط واحدة من الشبكات، التى أرادت تسويق خدماتها بين الأداهم.
كانت الطبيعة التنويمية الركودية التى يدمغ بها الموبايل سلوك الأداهم تروق «مبارك» وتخدم خططه. كان يعجبه ميل المصريين إلى الاستقرار، وهم يسمون الاختراع الجديد بالمحمول، وغرقهم فى تهليب المال من كل الاتجاهات، حتى يتمكنوا من إشباع تطلعاتهم إلى اقتناء أحدث الصيحات وأفضل الخدمات فى عالم الموبايل، وانغماسهم فى التسلية والحكى فى المحكى عبر المكالمات التى لا تتوقف آناء الليل وأطراف النهار. فالمكاسب السياسية والاقتصادية التى تترتب على هذه السلوكيات لم تكن تُعد أو تُحصى بالنسبة لـ«مبارك»، حتى استيقظ على حقيقة أن السم فى الدسم!.
وقد يهمك أيضًا:
الأعين اللامعة بالطمع
الخبر الداهم.. و«حظ الأداهم»