بقلم: د. محمود خليل
كثيراً ما أتوقف أمام الجملة القرآنية التى تقول: «فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ» وأتأمل المعنى العجيب الذى تشتمل عليه. هل العذاب -ولو كان بالنار- مشمول بقانون العادة؟. وهل يمكن أن يصل الإنسان إلى حالة لا يشعر معها بأية غضاضة فى الصبر على الجحيم؟!. وردت الجملة ضمن الآية الكريمة -من سورة البقرة- التى تقول: «أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ». وقد قدم المفسرون تخريجتين فى مقام فهم جملة «فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ». الأولى تقول إن الجملة جاءت على سبيل الاستفهام، أى: فأى شىء يصبرهم على النار؟ أو ما يصبرهم على النار؟. والثانية أن الجملة تحمل معنى التعجب من جرأة البشر على العمل الذى يقربهم إلى النار.
فى ظنى أن الجزء الأول من الآية يفسر جزءها الثانى. فهى تحدثنا عن تركيبة بشرية تدمغها سمتان أساسيتان؛ الأولى شراء الضلالة بالهدى، والثانية شراء العذاب بالمغفرة. شراء الضلالة بالهدى لا يعنى أننا بصدد موقف يقف فيه إنسان أمام حق يعى أنه حق، وباطل يدرك أنه باطل، فيختار الباطل ويزهد فى الحق. المسألة ليست كذلك، بل الأرجح أننا أمام إنسان يغلبه الضلال عن رؤية الحق الواضح والبين بسبب خضوعه لهواه أو انحيازاته، إنسان يسير فى طريق الضلال وهو موقن بأن ذلك هو طريق الهدى والحق. هذا الصنف من البشر وصفه القرآن بـ«الْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً» فى الآية الكريمة: «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً». أما شراء العذاب بالمغفرة فيعبر عن حالة بشرية يميل فيها الإنسان إلى التماهى مع فكرة تعذيب نفسه سواء من خلال الذات نفسها أو من خلال آخر يمارس نوعاً من «التسلط» عليه.
آيات عديدة فى القرآن الكريم حددت المساحات التى يتوجب على المؤمن أن يصبر فيها. من ذلك الآية الكريمة التى تقول: «وَالصَّابِرِينَ فِى الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ». فالصبر على الفقر واجب على الإنسان، لكن الصبر على الإفقار مسألة أخرى، والصبر على المرض مطلوب، لكن الصبر على الإمراض أمر مختلف، والصبر على مجاهدة الظلم شىء، والصبر على المظالم شىء آخر. ثمة فارق كبير بين صبر الإنسان على قدر الله تعالى، واستسلامه لأوضاع بإمكانه أن يتعامل معها ويغيرها لتصبح حياته أفضل. فالصبر على الفقر -على سبيل المثال- يصبح «صبراً» على «نار» إذا لم يجتهد الإنسان فى تغيير أوضاعه ولم يجهد نفسه ليستر ذاته ومن يعول. ومن المهم فى الختام أن نلفت النظر إلى أن الجنة والنار أحياناً ما تحمل معانى مجازية داخل القرآن الكريم. فقد تكون كلمة النار فى الآية الكريمة قد وردت بالمعنى المجازى ليقصد بها نار الدنيا وليس الآخرة، وإلا كيف نفهم حديث النبى، صلى الله عليه وسلم: «الدنيا نار المؤمن وجنة الكافر»؟.