بقلم: د. محمود خليل
أحب شعب «الأدهمية المصرية» عباس حلمى الثانى كما أحب الأول. فقد كان الخديو الأخير لمصر يعلم المعادلة التى يدير بها شعبه والمتمثلة فى «الخبز والهدوء». أُعجب الشعب بموقفه الرافض لفرض الحماية البريطانية على مصر، رغم أنه لم يعبر من خلاله إلا عن دفاع عن تبعية المحروسة لدولة الرجل المريض (الدولة العثمانية)، وكان «حلمى» شديد الإخلاص لسلطانها. فى كل الأحوال لم يكن «أدهم» يفهم هذه التعقيدات، فكل ما يريده هو العيش والهدوء، ولا مانع من أن يوالى الخديو بعد ذلك من يريد، حتى ولو كانت الموالاة لسلطان عاجز، وليس يهم أن يحصل هذا العاجز على جزية من دولة تخضع شكلياً لولايته. المهم أن تكون ديانته «مسلم»!.
تولى السلطان حسين كامل، نجل الخديو إسماعيل، حكم «الأدهمية المصرية» بعد عزل عمه عباس حلمى الثانى. وبمجرد توليته تم فرض الحماية على مصر. حاول «كامل» التقرب إلى «الأداهم» لكنه لم يفلح، فقد كانوا يرون أنه جاء على حساب عباس حلمى الذى أحبوه، ناهيك عن توليته بقرار إنجليزى وليس بفرمان عثمانى، كما حدث مع أسلافه. وزاد من كراهية «الأداهم» للسلطان اهتزاز المعادلة التى عاشوا عليها أيام «عباس حلمى» والمتمثلة فى «الخبز والهدوء». فقد تتابعت أحداث الحرب بصورة هزت أوضاع المصريين بعنف، ووجد «الأداهم» أنفسهم من جديد فريسة للسخرة، حين قررت السلطة تسخير أكثر من مليون مصرى من العمال والفلاحين لخدمة الجنود الإنجليز فى مواقع مختلفة. ومما زاد الأمر سوءاً الهبوط الحاد الذى ضرب أسعار القطن فى الأسواق العالمية بعد اندلاع الحرب عام 1914، فوقع المزارعون فى فخ الديون، واضطر أغلبهم إلى بيع الحلى والمصاغ كى يسددوا ما عليهم من أموال أميرية. ونتج عن هذه الأحداث سقوط الاقتصاد المصرى فى براثن أزمة طاحنة، بلغت ذروتها عام 1918. وتجلت أبرز مظاهر الأزمة فى قلة السيولة النقدية فى أيدى الناس، وتوقف البنوك لبعض الوقت عن صرف ودائع عملائها بسبب كثافة الإقبال على السحب، وطردت العديد من المشروعات الموظفين العاملين بها، وكثرت جرائم السرقة والنهب والقتل، وساءت أحوال الموظفين المصريين بدرجة غير مسبوقة، وضربت مصر موجة عاتية من الغلاء.
يصف عبدالرحمن الرافعى هذه الحال قائلاً: «ارتفعت أسعار الأشياء فى مصر ارتفاعاً متوالياً لم يسبق له مثيل، لا سيما أسعار السلع الأساسية كالحبوب والأقمشة والوقود، فثقلت وطأتها على الفقراء، لا سيما أن أجورهم لم تعد تكفى النفقات التى يقتضيها غلاء المعيشة، فى وقت كانوا يرون فيه أن عدداً من مواطنيهم ومن الأجانب يجمعون الثروات الكبيرة. وكانت العائلة المكونة من 4 أنفس لا تستطيع الحصول على ما يكفيها من القوت إلا بثمن يفوق بكثير متوسط الأجرة وقتئذ. فهذه العوامل المختلفة أفضت ولا ريب فى أواخر عام 1918 إلى الاستياء والقلق بين معاشر الفلاحين».
لم يمكث السلطان حسين فى الحكم سوى 3 سنوات على وجه التقريب، إذ توفى فى أكتوبر عام 1917، ليتولى الحكم من بعده السلطان فؤاد فى ظل ظرف شديد الحرج عاشه «أدهم المصرى» شعر معه أن الأرض تميد أسفل منه، ويئس من أن تعود الأحوال إلى سابق عهدها. وذلك شأنه دائماً لا يتحرك إلا لحظة الشعور باليأس من ضمان معادلة «الخبز والهدوء».