بقلم: د. محمود خليل
تشاركت «أميمة» زوجة «أدهم» مع أخيه «إدريس» طريد البيت الكبير فى الوسوسة إليه باقتحام خلوة الأب والاطلاع على وصيته والكيفية التى وزَّع بها أحكاره وأملاكه على أولاده والشروط التى وضعها لتناول كل منهم لميراثه. استجاب «أدهم» لوسوستها -كما يحكى نجيب محفوظ فى «أولاد حارتنا»- وتسلل إلى الخلوة، وكان ما كان حين ضبطه أبوه قبل أن يقرأ حرفاً منها. اعترف «أدهم» أمام أبيه بأن «إدريس» هو مَن طلب منه الاطلاع على حجة الوقف وأرشده إلى مكانها، وأن أميمة هى التى أغرته بالإقدام على هذا الفعل الأثيم.
أدهم المصرى قد يبدو مستبداً مسيطراً على زوجته كما وصف نجيب محفوظ، حين شرع فى سرد الكيفية التى عامل بها «أدهم» بطل الحكاية الأولى فى «أولاد حارتنا» زوجته بعد الطرد من بيت الكبير، لكنه لم ينسَ أن يكشف عن ملمح مهم فى علاقة الزوج بالزوجة داخل المجتمع المصرى. فالزوج يبدو مسيطراً على زوجته يوجهها كيفما وأينما شاء، وربما استسلمت الزوجة لذلك فى العلن وأمام الأهل والمعارف والأصحاب والأقارب، لكن الأمر يبدو عكسياً فى غير ذلك من مواقف. فالزوجة تمتلك القدرة على التأثير على زوجها وتوجيهه إلى ما يتناقض مع أفكاره وقناعاته، تماماً مثلما فعلت «أميمة» مع «أدهم» حين تمكنت من إقناعه بأن يسير فى طريق لم يتصور أن يسير فيه فيعصى جبار البيت الكبير وينساق وراء إغرائها ويندفع إلى اقتحام خلوة الأب للاطلاع على وصية الوقف.
يقول «شابرول» فى معرض تحليله لعلاقة الزوج بالزوجة فى كتاب «وصف مصر»: «نخطئ على نحو كبير إذا ما اعتقدنا أن المسلمات -برغم خضوعهن لنفوذ أزواجهن- يمكن أن يعاملن باستبداد وطغيان من قِبل أزواجهن، فإن وضعهن على العكس من ذلك طيب لحد كبير، كما أنهن فى نفس الوقت الذى تقضى فيه التقاليد والقوانين عليهن بنوع من الانسحاب والتقوقع الدائم يتوصلن لامتلاك نفوذ لا شك فيه على عقول أزواجهن، كما أن هؤلاء لا يستطيعون أن يسيئوا معاملتهن بل ولا حتى أن ينهروهن بحدة، إذ الزوجة فى هذه الحالة أو تلك تطلب الانفصال وتعود إلى بيت أبيها».
تأثير الزوجة على عقل «آدم المصرى» يبدو نسبياً تبعاً لاختلاف البيئات وتغاير الظروف. وقد كشف نجيب محفوظ فى «أولاد حارتنا» أن هذا التأثير كان حاضراً بقوة عندما كان الزوجان يعيشان فى البيت الكبير، لكن الأمر اختلف وبدأ «أدهم» ينفلت من عقاله بعد طردهما من البيت، وعاش حياته يعلق مأساة طرده من نعيم البيت الكبير فى رقبة «إدريس» الطاغية الذى لا يقدر عليه، وامرأته «أميمة» التى وسوست فى أذنه، لكن لعنه المستمر لأميمة لم يمنعه من العودة إلى مشورتها والخضوع لخططها فى مواقف متنوعة بعد ذلك، كما حكى نجيب محفوظ فى روايته البديعة.
المشهد المعيش يقول إن المساحات التى تحتلها المرأة فى عقل الرجل وقدرتها على توجيه تفكيره تزايدت فى ظل سيطرة «الثقافة الاستهلاكية» على حياة المصريين. فالاستهلاك أصله «تطلُّع»، ولا خلاف على أن التطلُّع شرك بين الرجل والمرأة، ولكن فى مواقف عديدة تجد المرأة المحرك الأول له.