بقلم: د. محمود خليل
منذ أن خرج طريداً من البيت الكبير، ظل «أدهم» -بطل الحكاية الأولى من أولاد حارتنا- يبحث عن أب يجد فيه حسم الجبلاوى حين تحتاج الأمور إلى حسم، ويحس معه بالرحمة حين تدهمه يد الحياة القاسية، فيشعر بالحاجة إلى يد حانية تقيل عثرته. رأى الكثير من «الأداهم المصريين» فى سعد باشا صورة الأب الغائب فدانوا له بالسمع والطاعة ورفعوه إلى مصاف عليا. يئس الناس من نموذج «الفتوة»، الذى جسده «عرابى»، واكتشف «الأداهم» خواءه مع أول معركة خاضها ضد فتوات الاحتلال دفعهم إلى البحث عن أب يأنسون إليه، يتحدث باسمهم ويسوس أمورهم، ويشكلون هم مصدر الحماية له. لم يجدوا هذا النموذج فى «عرابى»، الذى عاد من منفاه فى سيلان، وعاش ما يقرب من 10 سنوات دون أن يأبه له أحد حتى وافته المنية عام 1911، كذلك لم يجدوه فى محمد فريد الذى قاد نضال الحزب الوطنى بعد وفاة مصطفى كامل (1908)، وجد الأداهم النموذج الذى يبحثون عنه فى سعد باشا الشيخ الطاعن فى السن، أشيب الشعر، الذى ينطق وجهه بالوقار وخبرة السنين، فاتخذوه أباً فعظّموه وبجّلوه وقد لا نبالغ إذا قلنا قدّسوه.
لم يكن «سعد» فى نظر المصريين بشراً عادياً، بل كان إنساناً استثنائياً. حكى موسيقار الأجيال فى أحد البرامج التليفزيونية أن أمير الشعراء أحمد شوقى اصطحبه ذات يوم لزيارة سعد باشا، رأى أمامه طبقاً من المكسرات يأكل منه، نظر إلى الباشا الكبير فى دهشة، لكن سرعان ما فسر الأمر -كما يحكى- على أن «سعد» ليس مخلوقاً عادياً يأكل الطعام التقليدى الذى يطعمه الناس، بل يعيش على «المكسرات»، فهو ليس كغيره من البشر. عاش «عبدالوهاب» بهذه الفكرة حتى فهم فيما بعد أن سعد باشا كان يأكل الفستق واللوز وخلافه ليقاوم مرض السكر الذى يسبح فى دمه. هذه النظرة تعمّقت داخل «الأداهم» فوجدوا فى الشيخ الطاعن الأب، وفى زوجته صفية هانم ابنة أكبر عميل للإنجليز أماً لكل المصريين، أما بيته فلم يكن من العجيب أن يطلقوا عليه وصف «بيت الأمة»، وكأنهم أرادوا أن يستعيدوا ذكرى البيت الكبير الذى شيّده «الجبلاوى». كان القول دائماً ما قال «سعد». وآخر ما يزعم «الأداهم» أن «سعد» قال تلك الجملة التى ذهبت مذهب الأمثلة السيّارة، وهى جملة «مفيش فايدة»، تلك التى تتردد على ألسنتهم، كلما استبد بهم اليأس.
يرى نجيب محفوظ صاحب «أولاد حارتنا» أن سعداً كان شخصية فريدة من نوعها، فهو الإنسان الذى اعترف بنقاط ضعفه، وخاض رحلة تسامى فيها على ذاته حتى أصبح أمل جميع المصريين. والمتأمل للجزء الخاص بشخصية «سعد» فى رواية: «أمام العرش» لنجيب محفوظ يشعر بأنه أمام كاتب عرف كيف يعبر عن زعيم. يقول «محفوظ» على لسان أوزوريس، رئيس محكمة التاريخ لـ«سعد باشا»: «إنك أول مصرى يتولى الحكم منذ العهد الفرعونى، وتوليته بإرادة الشعب، من أجل ذلك أهبك حق الجلوس بين الخالدين من أجدادك». لقد نجح «سعد» ولو نسبياً فى تحقيق حلم «أدهم» بالجلوس على مقعد السلطة.