بقلم: د. محمود خليل
ذكرت لك أن هناك ثلاث سمات أساسية ميَّزت «الخريطة الأدهمية» لسيد قطب، مثله مثل غيره من مفكِّرى القرن العشرين، تشمل الاعتداد الشديد بالذات، والتعالى على الآخرين، والتمرد على المؤسسة. لو أننا نظرنا فى السمة الأولى سنجد أن الاعتداد بالذات سمة إنسانية إيجابية، المشكلة تحدث عندما يصرف الاعتداد بالذات صاحبه عن العالم من حوله، فيتحول إلى «اغترار بالذات». الاغترار بالذات له مردود شديد السلبية على الشخص، وهو شَرَك تاريخى ما أكثر ما يقع فيه «أدهم المصرى» حين يستسلم لإحساس وهمى بأن «العالم كله يحاربه ويتربص بأفكاره»، ويدفع به إلى شعور زائف بأنه وحده «صاحب الحقيقة»، ويضعه فى الختام فى امتحانات عسيرة، أساسها العجز عن التفرقة بين الرغبات والإمكانيات.
المتأمل لاعترافات سيد قطب فى كُتيب «لماذا أعدمونى؟» يجد أنه كرر أكثر من مرة أن تنظيم 1965 تشكَّل لحماية إسلام المجتمع المصرى ضد مخططات ومؤامرات الصهيونية والصليبية والإلحاد. هذه المقولة المتكررة فى اعترافات «قطب» تشير إلى رجل يظن أن العالم كله يتربص به. فالتآمر هنا موجَّه إلى الحركات الإسلامية -كما يذهب «قطب»- مثل حركة الإخوان أو التنظيم الذى قام بتشكيله بعد خروجه من السجن بعفو صحى عام 1965 والذى كان يتحدث عن أعضائه كمجموعة من الأشخاص المتوحدين فيه. لقد اشتبك عباس العقاد الذى كان سيد قطب أحد رواد صالونه وواحداً من شُراحه مع قضية «الصهيونية العالمية» -فى كتابه الذى يحمل نفس العنوان- ففنَّد أفكارها وحلَّل دعاواها وكشف أساطيرها ولم يعتمد فى قراءته لها على منهجية المؤامرة. وهذا ببساطة الفارق بين كاتب يعتد بذاته مرتكناً إلى ما يملكه من عقل ومنطق فى النظر إلى الظواهر مثلما هو حال «العقاد»، وكاتب آخر، مثل سيد قطب، غارق فى بحر من الخيالات التى تصور له أن العالم كله يتآمر ضده، وينظر إلى القوة التى تسيِّره: «الصهيونية العالمية» كقوة أسطورية بما يتسق مع نمط تفكيره المولع بالأساطير.
حتى لحظة إعدامه كان سيد قطب على يقين بأنه وحده الذى يملك حقيقة الإسلام، وأن فهمه وتصوره للعقيدة هما الحكمة المطلقة. فى اعترافاته يؤكد «قطب» عدة مرات أن هدفه من بناء تنظيم 1965 تمثَّل فى تقديم الفهم الصحيح للإسلام وتربية الناس عليه، ويشير إلى أن مهمته الأساسية مع المجموعة التى عمل معها تمثلت فى شرح الإسلام الحقيقى لهم، وهو الإسلام الذى يقوم على إخلاص العبودية لله، وتربيتهم على مفاهيمه. هذه المهمة على وجه التحديد اعتبرها «قطب» مهمة أساسية له، بحكم أنه وحده الذى يمتلك مفاتيح سر الإسلام، لذا تجده يذكر فى اعترافاته أنه لم ينشغل ببعض التحركات التنظيمية وكان يتركها لأعضاء التنظيم «من الأداهم الصغار»، وخصوصاً يوسف هواش. فهو كما يصف نفسه نصاً «مفكر إسلامى كبير»، وبالتالى لا يتسق مع إحساسه المعتد بذاته أن ينشغل بالتفاصيل.
ساق الاغترار الجارف بالذات سيد قطب إلى الانصراف عن دراسة معطيات الواقع والخلط الشديد بين قدراته وإمكانياته. فقد رأى -كما يذكر فى اعترافاته- أن يشكّل «قوة ردع» لحماية التنظيم والرد على الدولة عندما تتحرش بأعضائه. وصوَّر له خياله أن بمقدور مجموعة من الشباب الذين يعدون بالعشرات، ولا يتيسر لهم سوى عدد من الأسلحة البدائية، وغير مدربين، مواجهة دولة تملك مؤسسات دفاعية تحت يدها أعداد ضخمة من البشر والمعدات. ولست أستبعد أن يكون قد سرح بخياله إلى الضباط الأحرار (21 ضابطاً) الذين نجحوا فى الاستيلاء على الحكم عام 1952 وتوهَّم أن بإمكانه تكرار تجربة صديقه جمال عبدالناصر فخلط بين رغباته وإمكانياته وأدواته. وكان السر فى ذلك الاغترار الشديد بالذات.