بقلم: د. محمود خليل
أواخر أيامه انطفأ عقله المتوقد. عن الوالى محمد على باشا الكبير أتحدث. كان للتقدم فى العمر وتمكن المرض منه أثر بالغ على قدرته العقلية، فأصبح حديثه فى أحيان أقرب إلى الهذيان. كان قد ترك الحكم أواخر عمره لولده المقاتل الكبير إبراهيم باشا، لكن إرادة الله شاءت أن يتوفى الوالى الجديد بعد أشهر وعلى حياة عين أبيه الوالى الكبير. بعد وفاة إبراهيم تولى عباس حلمى بن طوسون أمر مصر، وذلك عام 1848.
فى تلك الأثناء كان الوالى الوالد الذى أنجب والياً مات، وحفيداً يحكم، يرقد فى قصر رأس التين بالإسكندرية مشوَّش العقل زائغ الإحساس، يعتصره الحزن بسبب ضياع الأراضى والبلاد التى امتد نفوذه إليها، جرّاء تكالب الدولة العثمانية والدول الأوروبية عليه، واتفاقهم على تقليم أظافره، وسجن حلمه فى تكوين إمبراطورية كبرى داخل مصر والسودان، وزاد من حزنه الألم الممض الذى اجتاحه بعد وفاة ولده الأثير وصانع أمجاده العسكرية إبراهيم باشا. لم يكن الوالى الوالد أيضاً بريئاً من اليأس. وما أضيع النفس التى يعشش فيها الحزن إلى جوار اليأس. كان مؤسس مصر الحديثة يائساً كل اليأس من قدرة أبنائه وأحفاده على استكمال مشروعه أو الحفاظ على ما تبقى منه. وهكذا مكث الوالى الكبير داخل إحدى الغرف بالقلعة يجتر أحزانه ويأسه حتى كان يوم 2 أغسطس عام 1849.
وافق 2 أغسطس من هذا العام يوم 13 من رمضان عام 1265 هجرية، كان «أدهم المصرى» قد نسى خلال ذلك حضرة الوالد الوالى الكبير محمد على. فى ذلك التوقيت كان «أدهم» غارقاً فى طقوسه الرمضانية المعتادة، لا يظهر فى الشوارع، ولا يفتح الحوانيت إلا قرب العصر -كما يصف ويليام لين فى كتابه «المصريون المحدثون»- ومن لا تسوقه الحاجة إلى الأسواق يتمدد أمام منزله منتظراً أذان المغرب. وسواء كان فى الأسواق أو فى الأزقة أو ممدداً أمام البيوت لم يكن «أدهم» يطيق الاستماع أو الحديث إلى الآخرين طيلة نهار رمضان، لكنه يتحول بعد المغرب إلى شخص آخر يشبه فى رقته الريح المرسلة. كل ما كان يشغل أدهم حينذاك كيف يستهلك ساعات نهاره وكيف يأنس ويسعد ويبتهج وينطلق فى ساعات ليله حتى يدهمه صوت «المسحراتى» لينبهه للاستعداد لصيام يوم جديد، يأكل ما شاء له الهوى حتى أذان الفجر، ثم يخلد إلى النوم حتى إذا استيقظ انخرط من جديد فى حالة الضجر والفلتان العصبى الناتجة عن الصوم، فيعزف عن العمل أو عن التفاعل مع الآخرين، ويستغرق فى حساب الساعات المتبقية على المغرب.
فى هذه الأجواء نادى المنادى فى شوارع المحروسة وأزقتها وأسواقها أن «الدوام لله.. مات الوالى الكبير محمد على باشا.. وسوف يُدفن جثمانه بعد الصلاة عليه بمسجده الذى بناه بالقلعة». كتب التاريخ لا تصف كيف كانت جنازة محمد على، والسكوت عن الذكر يعنى أن الحدث مر مرور الكرام. ربما يكون بعض المصريين الصائمين قد تساءلوا: وهل كان على قيد الحياة حتى لحظة الإعلان؟. وكأن ترك الحكم معناه الموت فى نظر «أدهم»، ربما ذكر آخرون فترة حكمه التى امتدت لما يزيد على 4 عقود كاملة فاستطالوا عمره، وربما سخر بعض الأداهم من «أداهم» أمثالهم حزنوا على وفاة حضرة الوالد الكبير عن عمر يناهز 83 عاماً بالمثل الأدهمى الشهير: «من مات صغير مات نبى كل الناس تبكى عليه.. ومن مات كبير مات هابيل كل الناس تضحك عليه».