بقلم: د. محمود خليل
المشهد شديد الارتباك الذى ضرب مصر بعد خروج الحملة الفرنسية سبب انزعاجاً شديداً لـ«آدم المصرى». فأول والٍ اعتلى السلطة بعد خروج الفرنسيين (خسرو باشا) لم يمكث فى الحكم أكثر من عام، ثم لاذ بدمياط هرباً من المشكلات الاقتصادية التى وجد نفسه عاجزاً عن حلها، وتولى السلطة من بعده طاهر باشا ولم يدُم حكمه أكثر من 26 يوماً، انتهت بقطع رأسه على يد اثنين من الانكشارية، أما على باشا الجزايرلى الذى تولى الحكم بعد «طاهر» فقد استدرجه المملوك عثمان البرديسى وقتله، ليثب على ولاية مصر من بعده خورشيد باشا. وقد بالغ الأخير فى الضغط على الرعية بالفرض والمغارم، والسلب والنهب والمطاردة، وإزهاق الأرواح.
أمام هذا الانزعاج لم يجد «أدهم المصرى» مفراً من التحرك وترك التمدد على الأرائك والأسرَّة وفوق الأرض. أدرك أن مشكلته الجوهرية تتحدد فى ترك المشهد لأمراء المماليك والترك والأرنؤوط ليقرروا مصيره، وأن الحل أن يتدخل هو كفاعل ليقرر مصيره بيدَيه. وكانت المفاجأة. فى زمن «خورشيد» هرع الأهالى إلى المشايخ -وعلى رأسهم نقيب الأشراف عمر مكرم- والتفوا حولهم ووضعوا أنفسهم تحت إمرتهم حتى يضعوا حداً لحالة السوء التى وصلت إليها البلاد والعباد. فى هذا التوقيت كان الضابط الألبانى محمد على يعرب عن أسفه وحزنه للحال التى وصل إليها الأهالى، والظلم الذى يتعرضون له من جميع الأطراف المتصارعة على الحكم فى البلاد. وأمام هذا العطف والتعاطف كان من الطبيعى أن تشير الأصابع إلى الرجل كوالٍ مثالى للبلاد يستطيع أن يُقيل عثرتها ويحقق لـ«أدهم المصرى» حلمه القديم المتجدد فى «الحديقة والناى». ولست بحاجة إلى سرد تفاصيل تعرفها عن الكيفية التى تولى بها محمد على الحكم والدور الذى لعبه الأهالى فى حمايته، والدفاع عنه ضد محاولات الباب العالى الإطاحة به وتعيينه والياً على أى بقعة أخرى غير الأرض المصرية.
تسلم محمد على البلاد فى وقت كانت أوضاع الشعب فيه يرثى لها، وكان خلافاً لغيره من الولاة الذين سبقوه يمتلك رؤية لشكل مصر التى يحلم بها، ومشروعاً يحدد أدوارها فى المنطقة، وأدوات تمكنه من الوصول إلى هدفه، لكن حسبة الرعية من المصريين حينذاك كانت بعيدة كل البعد عما يجول فى رأس محمد على، فقد كان تركز حلمها فى والٍ عادل يقلل المغارم والضرائب المفروضة عليهم ويقيم الأمن فى البلاد ويمنع عمليات السلب والنهب الممنهج التى يمارسها أمراء المماليك عليهم. ذلك هو الحلم الذى كان يسيطر على عقل وخيال «أدهم المصرى» بعد أن ذاق الأمرَّين طيلة أربع سنوات تفصل بين خروج الحملة الفرنسية وولاية محمد على، وتراكمت ظروف أدت إلى حرمانه من تحقيق الرزق الذى يساعده على الخلود إلى الراحة والتمتع بالحمامات العمومية والجلوس على المقاهى والتدخين، أو تمنعه من الحياة الحقيقية كما سمَّاها أدهم بطل الحكاية الأولى فى رواية «أولاد حارتنا»، حياة الاسترخاء والتمدد على عشب الحديقة وسماع الناى.