بقلم: د. محمود خليل
فى العلاقات السياسية الخارجية التى تربط دولة ما بغيرها، نجد أن هناك الظاهر والباطن، والمعلن والخفى، والجيد والردىء. أداء أية دولة إزاء دولة أخرى يرتبط بالمصالح والمواقف، ولأن المصالح والمواقف متغيرة فإن الأداء يأتى متغيراً أيضاً، لذلك فالحديث عن «العلاقات التاريخية» و«الروابط المتينة» و«العناصر المشتركة قومياً ولغوياً وخلافه» ليس أكثر من صياغات إنشائية تستخدم فى التغطية على واقع مرير. واقع لا يعترف إلا بثنائية العصا والجزرة، فإما أن تملك ما تُرهب غيرك به فيخضع، أو تلقى إليه بمصلحة أو منفعة فيشبع. ذلك هو اللسان المشترك لشعوب العالم المعاصر، مهما اختلفت ألوانها.
ما إن يذكر اسم السودان فى مصر إلا وتجد تلك العبارات الإنشائية إياها تقفز، فتجد من يتحدث عن العلاقات التاريخية والروابط القومية وخلافه. فى رحلة التفاوض على سد النهضة كان هناك ثقة فى أن السودان ومصر يقفان فى خندق واحد. فبلغة المصالح المشتركة سوف تتضرر المصالح المائية للدولتين إذا لم تلتزم إثيوبيا باتفاق ملزم فيما يتعلق بعدد سنوات الملء وأسلوب إدارة وتشغيل السد، خصوصاً خلال سنوات الجفاف «العجاف». من هذا المنطلق كان الجميع على قناعة بأن السودان ومصر فى صف واحد على المستوى التفاوضى حماية لمصالحهما المائية، وهى قناعة كانت تتدعم بالطبع بالعبارات الإنشائية إياها.
منذ اللحظة الأولى لانطلاق المفاوضات الخاصة بالاتفاق على مكتب استشارى عالمى يحدد التأثيرات السلبية لسد النهضة وموقف السودان يبدو متبعاً. ولماذا نذهب بعيداً ولدينا مثال قريب؟. ففى كلمته أمام مجلس الأمن أكد مندوب السودان ضرورة وجود اتفاق ملزم قانونياً وآلية واضحة لفض المنازعات بشكل يحمى المصالح المائية لدولتى المصب، وضرورة التزام إثيوبيا بعدم ملء السد إلا بعد الوصول لاتفاق. ثم إذا بوزير الطاقة والتعدين السودانى يخرج منذ ساعات ليؤكد أن سد النهضة سيفيد السودان بالكهرباء، وأن الدولتين (إثيوبيا والسودان) عقدتا اتفاقات ثنائية للاستفادة من كمية كبيرة من الكهرباء التى سيوفرها سد النهضة بعد ملئه!. مرة تجد المفاوض السودانى يتحدث كطرف متضرر من السد الإثيوبى ويريد أن يحمى نفسه من تأثيراته السلبية عليه، ومرة يقدم نفسه كطرف وسيط، مثله فى ذلك مثل دولة جنوب أفريقيا التى تترأس الاتحاد الأفريقى فى دورته الحالية.
موقف السودان كان ولم يزل غير واضح أو قاطع، شأنه فى ذلك شأن بعض الدول العربية الأخرى التى تستثمر فى إثيوبيا، وتملك الضغط على صانع القرار بأديس أبابا للتوقيع على اتفاق ملزم يحمى جميع الأطراف، بيد أنها لا تفعل. والمشكلة أن علاقتنا بهذه الدول تجللها يافطات «العلاقات التاريخية» و«الروابط المتينة» وخلافه.
ثمة دول أخرى عداؤها لمصر واضح وكيدها لنا ظاهر، وهى دول نتعامل معها على أساس أنها دول معادية، لكن المشكلة تتعلق بدول أخرى توصف بالصديقة، لكن أسلوب تعاملها مع مصر فى هذه المسألة الوجودية تذكرنا بعبارة: اللهم اكفنا شر أصدقائنا.. أما الأعداء فنحن كفيلون بهم.