بقلم: د. محمود خليل
كان محمد على يفهم المعالم الثقافية لشخصية «أدهم المصرى»، وقد عاينها بنفسه من خلال احتكاكه بنخبة المصريين الذين تعلموا فى المدارس والبعثات، وأراد أن يجعل منهم واحدة من روافع مشروعه النهضوى. كثيراً ما كان الوالى يلوم على أفراد هذه النخبة ترسخ بعض خصال «أدهم المصرى» بداخلهم. يذكر «شفيق غربال» فى كتابه محمد على الكبير أن الباشا كان فى حالات التقصير يقول للنخبة المحيطة به: «ولْتعلموا أنكم إذا لم تحوّلوا من خصالكم القديمة من الآن فصاعداً، ولم ترجعوا من طرق المداراة والمماشاة، ولم تقولوا الحق فى كل شىء، ولم تجتهدوا فى طريق الاستواء، ولم تسلكوا سبيل الصواب لصيانة ذات المصلحة، فلا بد لى من أن أغتاظ منكم جميعاً. وإذا كنت موقناً من تقدم هذا الوطن العزيز على أى صورة كانت وملتزماً فريضته علىَّ صرت مجبوراً على قهر كل من لم يسلك هذا الطريق المستقيم اضطراراً مع حرقه كبدى وسيل الدموع من عينى، فالذى أرجوه من الخالق -سبحانه وتعالى- أن يجعل نصيحتى هذه مؤثرة فى قلوبكم، حتى أشاهد منكم حُسن الحركة، وأعاين ما تستحقونه من الخير، وتقر عيناى بامتياز كل منكم حسب أقصى أملى».
المداراة والمماشاة أكبر مرضين عانى منهما الوالى وهو يتعامل مع أدهم المصرى. فعبر تجربته التاريخية المديدة احترف «أدهم» إخفاء مشاعره ومواقفه واتجاهاته (المداراة)، و(مماشاة) الواقع حتى ولو لم يكن مقتنعاً به، لأنه ببساطة يريد الراحة أو بالتعبير المعاصر «شراء رأسه». كان من العسير أن يستقيم هذا النمط من التفكير -البعيد عن الصدق والمصارحة- مع الوالى صاحب المشروع الكبير. محمد على فى المشهد السابق يحاول نصح النخبة بالتحرر من «المداراة والمماشاة»، وهو يهدد مَن لا ينفع معه النصح بأن يضطره إلى ذلك اضطراراً مع شفقته وانفطار قلبه عليه!. الوالى كان طموحاً ولا شك، لكن يبدو أنه لم يستوعب أن ما نسجه الدهر فى قرون لا يغيره شخص فى بضع سنوات. كان محمد على أشبه بحضرة الوالد -فى رواية أولاد حارتنا- الذى نظر إليه ولده «أدهم» نظرة إجلال واحترام، لكنه كان يحتار فى شخصيته التى تمزج بين القدرة الباطشة والرحمة والحنان الذى لا يحده ضفاف.
ومن جهته كان محمد على يضع نفسه فى صورة الأب الأعلم بما يحتاجه صغاره، والأقدر على تحقيق مصالحهم، والأكثر استيعاباً لما يصلح وما لا يصلح لهم. ومن هنا بنى علاقته بالأوادم المصريين تأسيساً على معادلة «الأبوة/البنوة». تأمل هذا المقطع الذى يناجى فيه الوالى صغاره قائلاً: «تعلمون أنى قد ناهزت سن الثمانين ولست فى تمنّى شىء لنفسى، بل كان تركى للنوم والراحة وبذلى لاجتهادى ليلاً ونهاراً إنما هو من أجل سعادتكم. وحيث إنى قد ربيتكم جميعاً من صغر سنكم وعلمتكم القراءة والكتابة فى المكاتب وأوصلتكم إلى ما أنتم فيه من الدرجات وقبلتكم أولاداً لى وصرت لكم أباً بحق، وجب أنكم لا تمتنعون من قبولى أباً لكم، بل تقبلوننى».