بقلم: د. محمود خليل
اختار حسن البنا نهايته بنفسه فاغتيل عام 1949. فمن يختر لنفسه ميدان الألعاب الخطرة يرفع من احتمال السقوط فى فخ النهايات المروعة، ومن يلدغ غيره فى جحر لن يأمن مكر اللدغ من آخر. لدغ «البنا» السلطة عبر نظامه الخاص الذى ترخّص فى قتل من كان يطلق عليهم «أعداء الجماعة»، فلدغته السلطة وانتهى أمره، دون أن يعرف أحد على وجه التحديد من الذى خطط ورسم ونفذ هذه النهاية له، لكن الثابت أنه من اختارها لنفسه.
فى العام ذاته الذى قُتل فيه حسن البنا (1949) كان «أدهم إخوانى» من نوع فريد تتشكل ملامحه فى الأفق. لم يكن حتى ذلك التاريخ من الإخوان بل من نجوم النقد والفكر والأدب، إنه سيد قطب. ذكر «قطب» فى كتاباته أنه اندهش لحالة السعادة التى طغت على الصحافة الأمريكية وهى تحكى واقعة اغتيال «البنا». ومن لحظتها بدأ يبحث فى التاريخ التفصيلى للرجل وجماعته. ولد سيد قطب فى نفس العام الذى ولد فيه البنا (1906) وربما نفس الأسبوع من نفس الشهر (سيد قطب مواليد 9 أكتوبر و«البنا» مواليد 14 أكتوبر)، وفى حين ارتضى حسن البنا لنفسه العمل مع «الأداهم الصغار» واعتمد فى تدجينهم على قدراته الشعبوية الخاصة، اختار «قطب» لنفسه العمل بين الأداهم الكبار من كبار مفكرى مصر وأدبائها، حيث كان يرى فى نفسه مفكراً إسلامياً من طراز مختلف.
تشابهت رحلة سيد قطب فى الحياة مع رحلة الكثير من أداهم الكتّاب والمفكرين الذين عرفتهم مصر خلال القرن العشرين، فسارت على الخط المستقيم الرابط بين «القرية» و«المدينة» و«الغرب». هذا الخط يعد الملمح الجامع -فى الأغلب- لأبناء ذلك الجيل، فمحطاته الثلاث، بما اشتملت عليه من خرائط وتفاصيل، تدخلت بطريقة أو بأخرى وبنسبة تقل أو تزيد فى تحديد نوع وهوية الأفكار التى أنتجتها والمفاهيم التى قدمتها والرؤية التى بلورتها أبرز الأسماء التى عرفناها خلال القرن الماضى.
ليست ثلاثية «القرية - المدينة - الغرب» هى التى تجمع فقط بين مفكرى القرن العشرين، فهناك ثلاثية أخرى تتعلق بالسمات التى تجمع بينهم، أضلاعها: الاعتداد الشديد بالذات، والتعالى على الآخرين، والتمرد على فكرة المؤسسة. هذه السمات كانت تتفاعل لدى رموز الفكر فى ذلك القرن فى سياق نفسى جوهره «الخيال والأسطورة». وهو السياق الذى ارتبط بالميلاد والنشأة داخل قرى مصر بما سادها من ظروف، تحرر بعضهم من تأثيرها عندما انتقل إلى المحطة التالية: «المدينة»، والبعض المحطة الثالثة: «الغرب»، وآخرون صاحبهم الخيال ورافقتهم الأسطورة فى كل المحطات فأودت بهم، كما حدث مع سيد قطب. فى قرية «موشا»، التابعة لمحافظة أسيوط، ولد سيد قطب عام 1906، وفيها عاش طفولته وصباه. قبل مولده بـ17 عاماً، وتحديداً فى عام 1889، ولد طه حسين بقرية «الكيلو»، إحدى قرى محافظة المنيا، وعاش طفولته وصباه هناك. وفى العام نفسه (1889) ولد عباس محمود العقاد بإحدى قرى أسوان التى احتضنت أيضاً طفولته وصباه.
خاض كل من سيد قطب والدكتور طه حسين وعباس العقاد رحلة متشابهة أبدعوا فيها رؤى وقدموا أفكاراً، لكن الفارق بين تعاطى كل منهم مع محطات الرحلة كان مختلفاً، وقيمة ما أنتجته رحلة كل منهم اختلفت فى درجة إيجابيتها أو سلبيتها. ولنتفق بداية على أن الأثر الإيجابى مثله مثل الأثر السلبى. فكلاهما «أثر» وإن اختلف فى درجة الخطر. رحلة سيد قطب مرت بنفس المحطات التى مرت بها رحلة عميد الأدب «من القرية إلى المدينة إلى الغرب»، وإن اختلفا فى وجهة كل منهما نحو الغرب، فسيد قطب سافر إلى الولايات المتحدة وقضى فيها ما يقرب من عامين، فى حين توجه طه حسين إلى فرنسا وقضى فيه سنوات طوالاً، وتزوج من أهلها. أما «العقاد» فيتشابه معهما فى محطتين «من القرية إلى المدينة»، لكنه لم يسافر إلى الغرب، وإن هضم بعقله المتوثب وجهده البحثى الكبير فن وفكر وأدب دوله ومجتمعاته.
الأسماء الثلاثة السابقة سار كل منهم فى طريق. التصق سيد قطب بخيالات الطفولة وأساطيرها ولم يتمكن من التحرر منها، بل قل إنه لم يسع كما سأوضح لك بالتفصيل. أما طه حسين فقد تشبث بـ«الخيالات والأساطير» فى طفولته فى قرية «الكيلو»، وصاحبته ردحاً من الزمن عند انتقاله إلى القاهرة، لكنه تعلم -بعد ذلك- أن يجعل من الواقع مادة لتخيله. وكان «العقاد» نسيجاً وحده حين جعل للعقل سلطاناً لا يضاهيه سلطان.