بقلم: د. محمود خليل
اجتاحت مصر بعد نكسة 1967 موجة عاتية من الدروشة، أخذت المصريين من جهاتهم الأربع. كان الشارع وقتها يموج بالاستغاثات وطلب المدد من أهل بيت النبى وأولياء الله الصالحين. حكاوى ترقى إلى مرتبة الخرافات راجت بين الناس، منها أن السيدة زينب زارت أحد كبار المسئولين وطلبت منه كسوة مقصورتها بالسواد، حزناً على الهزيمة. اشتعلت مستويات المشاركة فى الموالد كجزء من حالة «الزار العام» التى وقع فيها المصريون. انتشرت أحاديث فى الشارع تقول إن السيدة «مريم ابنة عمران» تجلت فوق كنيسة العذراء بحى «الزيتون» وتوافد كبار المسئولين ليشاهدوا التجلى المقدس، وأصدر البابا كيرلس السادس بياناً ذكر فيه «أن ظهور العذراء بكنيسة الزيتون حقيقة». الآلاف الذين شاهدوا الظاهرة العجيبة والملايين التى سمعت بها ربطت بين ظهور العذراء والنكسة، ورددوا أن السماء تُرسل للمصريين برسالة اطمئنان بنصر وشيك على عدوهم.
كانت أنفاس الصوفية تلف المصريين من شتى نواحيهم. وكان لهم عُذرهم فى ذلك، فقد كان بداخلهم ألم مكين وجرح عظيم واهتزاز غير مسبوق بالثقة بالذات والقدرة على الفعل أو المواجهة، بعد سنوات طويلة عاشوها فى ظلال «وهم القوة»، وهو الوهم الذى استيقظوا منه على حقيقة مروّعة. كيف لا نعذر البسطاء الذين ينشدون بركات الأولياء ويطمعون فى كراماتهم، ونحن نجد أرفع المسئولين فى البلاد فى ذلك الوقت يتحدّثون بلسان صوفى مبين. دعنى أسرد لك واقعة تتصل بأهم وأكبر رمز دينى بمصر فى السبعينات، وهو شيخ الأزهر، الشيخ عبدالحليم محمود، رحمه الله. قُبيل حرب أكتوبر، انتشرت حكاية تقول إن الشيخ رأى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فى المنام يعبر قناة السويس ومعه علماء المسلمين وقواتنا المسلحة، فاستبشر خيراً وأيقن بالنصر، وأخبر الرئيس السادات بتلك البشارة.
وقد كان الدكتور فؤاد زكريا -رحمه الله- دائب النقد لهذه القصة. وبمناسبة الحديث عن الرئيس «السادات» رحمه الله، ربما يعرف الكثيرون أن «السادات» كان وثيق الصلة وشديد الثقة بالسيد «حسن التهامى»، الذى شغل منصب نائب رئيس الوزراء، خلال هذه الأيام، ولعب دوراً مهماً فى ترتيب التفاوض مع إسرائيل وإبرام معاهدة السلام المصرية - الإسرائيلية، وقد كان «التهامى»، كما يحكى من اقتربوا منه، يتمتّع بنزعة «صوفية» لا تخطئها العين. والواضح أنه كلما انتشرت الروح الصوفية فى مجتمع، هيّأه ذلك لقبول فكرة الإخوان، التى تجعل من التصوّف «عتبة ولوج» إلى الجماعة، ثم تأخذ العضو إلى دروب أخرى بعد ذلك.
بعد نصر أكتوبر 1973، بدأ «السادات» فى تمهيد الأرض، لتشكيل الدولة طبقاً لرؤيته، التى كانت مختلفة فى الكثير من معالمها وتفاصيلها عن رؤية «عبدالناصر»، لكن «السادات» وجد نفسه وهو يجذر معالم رؤيته، فى مواجهة مزلزلة واختبار عسير أمام المصريين، وذلك فى أحداث 18 و19 يناير، التى عبّر فيها الشعب عن رفضه لسياسات الدولة الساداتية الجديدة. كانت لدى «السادات» قناعة راسخة بأن الشعب معه، وأن من تحركوا ضده مجموعة من الرعاع الذين يقف وراءهم الشيوعيون وفلول الناصرية، وبدأ يفكر فى كيفية سحب البساط من تحت أرجلهم. وهداه تفكيره إلى الاستعانة بالإخوان كظهير شعبى يمكن أن يعمل فى خدمته. ولحظتها بدأ الميلاد الثانى للإخوان على يد عمر التلمسانى، وهو واحد من تلامذة المؤسس الأول للجماعة الشيخ حسن البنا.