بقلم : محمود خليل
لم تكن قرارات «عبدالناصر» التى تصب فى مصلحة الطبقات الفقيرة والوسطى والأجيال الجديدة من الشباب تتوقف، طيلة السنوات التى تلت عدوان 1956، وامتد أثرها إلى التعليم والتوظيف والعمل والتموين والسكن والصحة. ومع مطلع الستينات أصدر الرئيس قانوناً لتنظيم الصحافة آلت بموجبه الصحف التى كانت مملوكة لأفراد وعائلات (رؤوس أموال خاصة) إلى الاتحاد القومى (الاتحاد الاشتراكى فيما بعد)، وهو التنظيم المعبِّر عن تحالف قوى الشعب العامل. لم تكن الصحف تجرؤ حينذاك على إبداء أى رأى مخالف لتوجهات السلطة، خصوصاً بعد إيقاف جريدة «المصرى»، لكن السلطة حينها أرادت ألا تترك شيئاً للصدف، فقررت السيطرة على جميع الصحف، تماماً مثلما تسيطر على الراديو، ثم التليفزيون. وعقب صدور قانون تنظيم الصحافة بعام واحد، وبالتحديد فى يوليو 1961 صدرت قوانين يوليو الاشتراكية، وبموجبها قبضت الدولة على الاقتصاد بيدها -كما قبضت بالأمس على الإعلام- وأصبح القطاع العام هو القاطرة التى تجر عجلته. تلونت الحياة فى الاقتصاد والسياسة والإعلام بلون «ناصر».
القاعدة العريضة من «الأداهم» كانت سعيدة بما يحدث، لم يكن أحدهم يتوقف أمام الحالة الأحادية التى تسيطر على المشهد، الصوت الواحد فى الإعلام والسياسة والاقتصاد، فقد كان هو الصوت الأثير بالنسبة لها. القاعدة العريضة كانت تنظر فلا تبصر إلا جمال عبدالناصر، هو من وجهة نظرها الأقوى والأقدر والأحكم والأوْلى بأن يُسمع عندما يقول ويطاع عندما يأمر. النخبة الأدهمية كانت متململة بالطبع مما يحدث، لأنها أضيرت، واعتبرت أن عبدالناصر صنع شعبيته من جيوبها، وأن هذه الجماهير التى تهتف باسمه لا تفهم أنهم أكلوا أموالهم بالباطل ويعيشون على «السحت». فالفدادين التى وزعها انتزعت من مُلاك، والمصانع والمشروعات التى أممها كان لها أصحاب، لكن القاعدة العريضة من الأداهم لم تكن ترى بأساً فى ذلك، بل اعتبرت المسألة «تخليص حق» من الطبقة المستغلة كما تعلمت من خطابات عبدالناصر.
تحدى عبدالناصر الغرب وبنى السد العالى، واجتهد فى إحداث نهضة صناعية، وأوجد حاضنة لتشغيل خريجى الجامعات وحاملى الشهادات المتوسطة. لم يكن «الأدهم» يهتم بالتفاصيل.. المهم أن يعيش. فى حوار تليفزيونى مع مراد غالب، سفير مصر الأسبق لدى الاتحاد السوفيتى، ذكر أن مسئولاً روسياً كبيراً تصادف أن كان فى زيارة لمصر فنظمت له جولة فى أحد المصانع فاندهش للعدد الكبير من العمال والموظفين الذين يعملون فى المصنع وعدم مناسبتهم لحجمه أو إنتاجه. كثير من المؤسسات بدأت تعانى من أزمة عدد بسبب توسع الرئيس عبدالناصر فى منح قوى الشعب العامل فرصاً لا يقابلها توسع فى المنشآت أو المشروعات أو الخدمات. حدث ذلك فى المدارس والجامعات والمصانع وغيرها من مؤسسات الدولة. وهو الأمر الذى أدى -فيما بعد- إلى ترهل الكثير من المؤسسات، مع ما يصاحب الترهل من مشكلات ضعف إنتاج وتراجع فى شروط الجودة وظهور الفساد على مستوى القيادات الإدارية العليا والوسيطة.
كانت الأمور تسير على النحو الذى يحبه «الأداهم» ويهواه الرئيس جمال عبدالناصر حتى العام 1962، انتصارات سياسية تتوالى يضخم منها إعلام الصوت الواحد، إجراءات اقتصادية لصالح البسطاء تتدفق، معدل نمو اقتصادى يصل إلى 7%، أجيال جديدة تشعر بالأمل فى الغد وتراهن على الزعيم دون سواه وترى أن التاريخ بدأ معه وتسخر من أجيال الآباء حين تتحدث عن الماضى، لكن ماء كثيراً جرى فى نهر المحروسة مع دخول مصر حرباً جديدة فى اليمن.