بقلم: د. محمود خليل
هناك ثقافة ذات جوهر محدّد أصبحت تحكم -منذ زمان بعيد- تصرفات المصريين. ويتحدّد هذا الجوهر فى «التدين المغشوش». عبر عقود عديدة كان ينظر إلى الشعب المصرى -شأنه فى ذلك شأن شعوب عربية وإسلامية عديدة- كشعب تحكمه «ذهنية التحريم». ففى سياق أى خطوة يخطوها أو تصرّف يأتيه أو سلوك يسلكه كان يسأل باستمرار: هل الخطوة أو التصرّف أو السلوك حلال أم حرام؟. ولا نستطيع بحال أن ننفى أن هذه الذهنية لم تزل متحكمة فى العقل المصرى، وتستطيع أن تجد مؤشرات عديدة دالة عليها فى الأسئلة التافهة التى يميل البعض إلى طرحها على برامج الفتوى التى تعج بها القنوات الفضائية ومحطات الإذاعة حول الحلال والحرام فى الأفعال والسلوكيات، مثل الأسئلة المتعلقة بالوشم ورسم «التاتو»، والسيدة التى تسأل عن قط تملكه يريد الزواج ولا تملك المال الذى يمكنها من شراء قطة لتفى بحاجة قطها، وغير ذلك من أسئلة عجيبة يظن من لا يعرف المصريين وهو يسمعها أنهم شعب حريص على الحلال والحرام فى كل أفعاله وتصرفاته، وأنهم عظيمو التدين!.
لو أنّك تأملت الحريق الذى شب فى إيتاى البارود بمحافظة البحيرة يوم الأربعاء الماضى، فسوف تجد أشباحاً ذهنية أخرى تتراقص أمامك -غير ذهنية التحريم- إنها الذهنية النقيضة التى يمكن أن نطلق عليها «ذهنية التحليل». استحل بعضهم كسر خط المنتجات البترولية وتركيب «كلبس» مكان الكسر، ليحصلوا على البنزين حين يريدون، وظلوا يشفطون ما يحتاجون منه على مدار أيام، وفى آخرها لم يُحسنوا إغلاق الكلبس، فتسرّب البنزين إلى الترعة المجاورة. استيقظ الأهالى صباح اليوم التالى على رائحة البنزين الذى غمر الترعة، فتسابقوا إلى تعبئته فى جراكن، ثم حدث أن ألقى أحدهم عقب سيجارة فشب حريق هائل سقط فيه قتلى ومصابون. استحل بعض الأهالى سرقة البنزين كما يستحل البعض سرقة الكهرباء، وسرقة المياه، والإفلات من دفع الضرائب وغير ذلك من سلوكيات يسلكها المواطن من منطلق «ذهنية التحليل» عندما يتعلق الأمر بـ«مال الحكومة». فهو يتعامل معه كما كان يتعامل قديماً مع «أموال الخواجات» المحتلين ممن كان يستحل سرقتهم، وكأن الله جل وعلا حكر على المصريين، وليس رب غيرهم كما أنه ربهم!.
ذهنية التحليل أصيلة فى تفكير المصريين، ومبررات المواطن وهو يقع فى محاذيرها ومحظورها عديدة. البعض يرى أن الحكومة تسرقه وهى تحدد له أسعار الخدمات، والبعض يرى أن بعض من يعملون فى الحكومة يسرقون، فلا بأس من أن يسرق مثلهم، وآخرون يبررون بعدم امتلاك ما يدفعون فى مقابل الحصول على ما يريدون. كل هذه المبررات واهية وتتناقض مع ما هو معلوم بالضرورة من آيات قرآنية تنص على «وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى».. «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ» و«تَوَلَّوا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ». ذهنية التحليل أكثر كشفاً لطريقة تفكير بعض المصريين من ذهنية التحريم، وهى أقدر على فضح نمط التدين السائد لدينا، والذى يمكن وصفه بـ«التدين المغشوش»!. نسأل الله الرحمة والمغفرة لمن قضى فى حريق «إيتاى البارود» والشفاء لمن أصيب فيه.
وقد يهمك أيضًا:
عاصفة إرهابية فى أفق الأدهمية
«أداهم» المسلك اللطيف