بقلم: د. محمود خليل
بدأت الأسماء البارزة التى اشتهرت لدى «الأداهم» بالأمس القريب تتوارى خلف حجب النسيان، طواها عام 1954 فيما طوى من أحداث، اختفى محمد نجيب، ومعه خالد محيى الدين، ورموز جماعة الإخوان الذين تصدَّروا المشهد مع الضباط الأحرار خلال الأشهر الأولى للحركة المباركة التى تحولت رسمياً إلى ثورة. لم يبقَ فى الصورة سوى جمال عبدالناصر، كل من واصل معه اختزل فى شخصه، وكل مَن حاول أن يكون له صوت كان مصيره الغياب عن المشهد، لم ينجُ من عاصفة الشعبية الناصرية سوى من قرأ المشهد بعقلانية فآوى إلى الظل.
نجح عبدالناصر فى خلق شعبية جارفة بين «أداهم المصريين» من الفلاحين والعمال والطلبة. رأوا فيه تصديقاً لحلمهم التاريخى الكبير بأن يخرج من أصلابهم «أدهم» يخلصهم من كل الطغاة، يملأ الأرض عدلاً بعد أن مُلئت جوراً. كانت نظرات «الأداهم» مفعمة بالإعجاب وهى تبصر ذلك المصرى البسيط الذى رضخ له بكوات وباشوات وأمراء العهد البائد، استجابت له قوى الاستعمار التى جثمت على صدر الشعب لعقود طويلة. بالأمس تمكنت هذه الأطراف من كسر زعيم الفلاحين أحمد عرابى، لكنها وقفت بلا حول ولا طَول أمام «ناصر». كانت نظرة اختلطت فيها الحقيقة بالأسطورة، والمكاسب والمصالح الواقعية التى رعاها الزعيم للطبقات الفقيرة والوسطى بالمبالغات وقلب الحقائق وتصوير الواقع على غير ما هو واقع.
هاجمت جيوش إنجلترا وفرنسا وإسرائيل مصر عام 1956 وتمكنت من احتلال سيناء وبورسعيد، لم يكن أداء عبدالحكيم عامر القائد العام مُرضياً لجمال عبدالناصر نفسه، ووقف الأهالى يقاومون ببسالة على خط القناة، وانتهت المعمعة باتفاق أمريكى - روسى على توجيه إنذار لقوى العدوان بالانسحاب. لم يكن الأداء على المستوى المطلوب، لكن «الأداهم» لا يهتمون بالتفاصيل، كما لـمَّحت لك فيما سبق. ركز الإعلام على المقاومة الجسورة التى أبداها المصريون فى مواجهة العدوان، بدأت الأساطير تتكاثر حول الرجال الذين ضحوا والأطفال الذين خرجوا بـ«غطيان الحِلل» والسيدات اللائى تسلحن بـ«أيدى الهون» ليدقوا بها رؤوس وعظام جنود المظليين المعتدين الذين يهبطون من الطائرات لاحتلال الأرض. لم تعد التفاصيل تهم، فخيط واحد من خيوط الحدث أو تفصيلة واحدة منه يمكن أن تؤسس عليها صورة كلية تعيش فى أدمغة الأداهم، مثل تفصيلة أن «المقاومة تساوى النصر»، ولكى تعيش هذه التفصيلة للأبد يحسن أن تتحول إلى أغنية أو نشيد: «دع سمائى فسمائى محرقة.. دع قناتى فقناتى مغرقة.. واحذر الأرض فأرضى صاعقة».
شعبية جارفة تمتع بها جمال عبدالناصر، لم يعد يحتاج معها إلى تنظيم أو حزب أو قوة تدعمه فى الشارع، كان بمقدوره أن يتحدث إلى المصريين ويحركهم مباشرة ودون واسطة. الجميع ينتظر خطابات الزعيم التى تحتشد فيها مفردات العزة والكرامة والقوة، وتتمازج فيها الصرامة والحدة مع النعومة والنكتة، إنها الخلطة السحرية التى كانت تثبت باستمرار أن الزعيم يفهم نفسية الأداهم بعمق ويجيد العزف على الأوتار التى تطربها.