بقلم: د. محمود خليل
اعتاد لسان «أدهم» على إفراز التعابير الدينية كما يفرز الكبد الصفراء. كل كلام «أدهم» يأتى مكللاً بعبارات يستحضر فيها السماء، فكل أمر بمشيئة الله، وكل شىء بقدر الله، وكل حدث تحركه يد الله، وكل خطوة تحرسها عناية الله، وحين تضل به السبل يحفظه الله، وحتى إذا تعثر فـ«اسم الله عليه». اسم الله يتردد على لسان «أدهم المصرى» فى كل اللحظات والمواقف. التدين اللسانى حالة أدهمية خاصة عادة ما يدارى بها فشله أو إخفاقاته أو أخطاءه أو عجزه، ورغم أن الإيمان بالله هو بالأساس مصدر قوة، نجده عند «أدهم» مظهراً لمداراة ضعفه وستر انكفائه. تعود «أدهم» على «التدين تحت راية» فأصبح دينه شعارات تتردد، وأقوالاً تتكرر، ومسيرة فى ركاب درويش أو شيخ، يصح أن نصفه بشيخ الطريقة الأدهمية.
فى أواخر عهد الخديو إسماعيل تعرضت البلاد لأزمة مالية شديدة فاقترح عليه ناظر ماليته «إسماعيل المفتش» اللجوء إلى الرعية لمساعدته ضد تحرش القوى الأجنبية به، وأن يستعين فى إقناعها بأحد مشايخ «الطريقة الأدهمية». جاء الخديو بالشيخ واستفتاه فى الأمر الذى آلت إليه مالية البلاد ومدى شرعية الاستعانة بمال الرعية فى حل المشكلة، فأفتاه الشيخ قائلاً: «إن الأموال أموال سموكم، وإننا جميعاً بمالنا ونسائنا وأولادنا عبيد لسموكم، والعبد وما ملكت يداه لمولاه». ولأن التدين الأدهمى كلام ولكلكة لسان فإن الرعية لم تفعل شيئاً لباشا مصر، وأخذت الأزمة المالية تتفاقم، فتأخرت رواتب الموظفين، وشحت الأرزاق بصورة أنذرت بما هو أدهى.
بدأت إرهاصات الثورة العرابية، كما تعلم، أواخر عصر «إسماعيل»، واكتمل مشهدها فى عهد خلفه فى الحكم محمد توفيق باشا. وما يهمنا فى موضوع هذه الثورة ليس أحداثها أو تفاصيلها التى نعلمها جميعاً، بل الكيفية التى تفاعل بها «الأداهم المصريون» معها. وأول ما يجب الانتباه إليه فى هذا السياق أن «أدهم» لم يلتفت فى البداية إلى أن هذه الثورة بدأت كفكرة داخل القصر الخديوى أواخر عصر «إسماعيل». فقد جاء «إسماعيل» بأحد مشايخ الطريقة الأدهمية، كما حكيت لك، وسأله فى شأن الاستقواء بالرعية فى مواجهة ضغوط الإنجليز عليه، ورد عليه الشيخ الرد الذى ذكرته. يسجل «ولفريد بلنت» فى كتابه «التاريخ السرى للاحتلال الإنجليزى لمصر» أن الثورة العرابية تمثل «إحدى البدايات اليائسة التى قام بها الخديو إسماعيل عندما اصطدم مع (ولسون) من أجل المحافظة على سلطته وقوته فى مواجهة الوصاية القنصلية، التى أوقعه فيها سوء تصرفه وديونه. حاول الخديو إسماعيل استعادة حسن ظن رعاياه تجاهه، بل راح يناشدهم طالباً منهم العون والمساعدة والتأييد، وليس هناك شك فى أنه تحت ستار المطلب الشعبى حاول أن يتنصل من جزء من الدَين».
الداهية «إسماعيل المفتش»، ناظر المالية الخديوية، كان خبيراً بالنفس الأدهمية، والقوى الدافعة لها، وأولها قوة التعصب الدينى، والتعصب للدين الرفيق الأكثر إخلاصاً لفكرة «التدين اللسانى»، لذا فقد نصح الخديو بالدخول إلى المصريين من خلال أحد شيوخ الطريقة الأدهمية، وكان «المفتش» يعلم أيضاً أن عطش «أدهم» إلى فكرة الإصلاح كبير، وأنه يود العيش الكريم مثل غيره من بنى آدم، وقد ظل سنين مؤمناً بأن سياسات الخديو هى السبب فى تعكر مزاجه المعيشى، لكن «المفتش» تمكن بحرفية من أن يوجه هذه الطاقة السلبية إلى الإنجليز الذين يريدون احتلال البلاد ونهب خيرها. وبهذه الطريقة انتقلت فكرة الثورة العرابية من أروقة القصر الخديوى إلى شوارع وحوارى المحروسة.