بقلم: د. محمود خليل
ضاع حلم «الأداهم» فى التربع على سدة الحكم، بعدما فشلت ثورة «عرابى». الأحداث التى شهدتها المحروسة أواخر عصر الخديو إسماعيل وأوائل عصر توفيق تشهد على أن زعيم الفلاحين كان يفكر فى حكم مصر بصورة أو بأخرى، فقد خطط لاغتيال «إسماعيل»، لكن خطته لم تمض، وحاول خلع «توفيق» من الحكم والتخلص من النظام الموروث عن عصر محمد على وإقامة جمهورية، لكن عوامل محلية ودولية عديدة حالت دون ذلك. وكان المحرك الأول لتفكير «عرابى» فى هذا السياق إيمانه بأن مصر للمصريين وليس للإنجليز أو للسلطنة العثمانية.
كان الخديو سعيد بن محمد على الحاكم الوحيد الذى أحبه وأخلص له «عرابى»، شأنه فى ذلك شأن كافة «الأداهم» المصريين. وسبب ذلك معلوم، فقد سنّ «سعيد» مجموعة من القوانين والتشريعات التى أفادت الفلاح المصرى، ويأتى على رأسها اللائحة السعيدية التى مكّنت الفلاحين من تملك الأرض بعد أن حرمهم الوالى الكبير من ذلك، كما أتيح للفلاحين فى عصره فرص متنوعة للترقى فى صفوف جيش الوالى، وقد نال «عرابى» نصيباً موفوراً على هذا المستوى. كان زعيم الفلاحين يرى نفسه ثمرة للإصلاحات التى قام بها الخديو سعيد، وتشير أحداث التاريخ إلى أنه كان قريباً منه، وأن الخديو اختاره ياوراً خاصاً له.
فى عهد كل من عباس الأول وسعيد تراجع المشروع التحديثى الذى تبناه محمد على بصورة ملحوظة، لكن الأمر اختلف مع تولى «إسماعيل» السلطة فعاد المشروع التحديثى العلوى إلى العمل مرة ثانية. وهو توجّه لم يرض عنه الكثير من «الأداهم». قد يكون السبب فى ذلك ما علمته التجربة لـ«أدهم» من أن «التحديث» من وجهة النظر العلوية يعنى «إهدار الفرد لحساب الدولة» بكل ما تؤشر إليه هذه العبارة من معان، وهو توجه كان يجعل المواطن «الأدهمى» خصماً لأية محاولات للتطوير. والمشكلة أن الفرد البسيط لا يستوعب الرؤى المستقبلية للدولة، والتزامها بالتخطيط والتنظيم من أجل الأجيال القادمة حتى ولو تم ذلك على حساب الجيل الذى يعيش اللحظة. الفرد العادى لا ينظر إلى أبعد من قدميه ولا يفكر بعيداً عن خبز يومه. الأزمة الحقيقية التى واجهها المشروع التحديثى العلوى ارتبطت بالعجز عن الالتقاء فى منطقة وسط تتفهم فيها الدولة الاحتياجات العاجلة للمواطن، ويتفهم فيها المواطن الأهداف البنائية والتحديثية للدولة.
جمح الفرس الأدهمى بطموح «عرابى»، وكذلك «الأداهم» الذين احتشدوا من خلفه. الانتصارات المتتالية التى حققها زعيم الفلاحين أغرتهم بحسم الأمر كاملاً لصالحهم، لذلك فقد كان إحباطهم عظيماً عندما خرّ الفرس بالفارس، وأدركوا أنهم اقتاتوا على الوهم، وأن السيطرة على بيت المحروسة الكبير حلم بعيد المنال. وقد تعوّد «أدهم» فى حالات الإحباط أن يفتش فى ماضيه ويتعلق بحلم استعادته، تماماً مثلما فعل بطل الحكاية الأولى من أولاد حارتنا عندما كان يستدعى فى لحظات الهم والغم التى عاشها فى الخلاء لحظات النعمة والهناء التى عاشها فى البيت الكبير، وقد فتش «أدهم المصرى» فى ماضيه بعد إخفاق الثورة العرابية، فقرر إحياء دولة «عباس حلمى الأول» القائمة على التزمت الدينى والانغلاق على الذات والولاء الكامل للدولة العَلية، ونبذ كل ما يأتى من ناحية الغرب، لأن الغرب لا يأتى بشىء يسر القلب.