بقلم: د. محمود خليل
النسيان والرغبة فى التوهان من السمات الأساسية التى دمغت شخصية «أدهم المصرى»، منذ أن رحل من البيت الكبير إلى «الخلاء». فقد ظل يحلم بالعودة المستحيلة إلى الحياة الرخوة المسترخية، التى عاشها بين الحديقة والناى حتى أدرك أن «الشقاء» هو قدره المحتوم وأن عليه أن ينسى ويبحث عن وسيلة تستطيع أن تغير مزاجه المرهق، وتُسكت عقله النشط فى استدعاء أخطائه وتذكيره بمأساته، ويريح جسده المنهك ويشعله بالرغبة فى الحياة التى يعيشها رغم ما يكسوها من بؤس وعنت.
نظر «أدهم» إلى الخمر، فوجدها محرّمة تحريماً مؤكداً بنصوص القرآن، وأن عليه أن يبتعد عن حاملها وشاربها ومجالس تعاطيها، واجه معضلة البحث عن أداة شرعية ينيم بها عقله، فأوجد لنفسه سكتين، الأولى هى «سكة الحشيش والأفيون» والثانية «سكة البوظة». يقول ويليام لين، صاحب كتاب «المصريون المحدثون: شمائلهم وعاداتهم»: «دخلت عادة مضغ أوراق القنب إلى مصر منتصف القرن الثالث عشر الميلادى. فأولع بها على الأقل أفراد الطبقة الدنيا. على أن كثيراً من أفاضل رجال الأدب والدين استسلموا لإغرائها وأيدوا جوازها للمسلمين. وقد انتشرت هذه العادة بين الطبقات السفلى فى العاصمة وفى غيرها من مدن مصر. ويثير الحشيش المعد للتدخين طرباً شديداً وهو يدخن فى الجوزة. ويسمى آكل الأفيون أفيونياً، ويعتبر هذا الوصف أقل مهانة من كلمة حشاش، إذ إن كثيراً من أفراد الطبقتين الوسطى والعليا تصدق عليهم هذه التسمية».
امتاز «كيف المخدرات» منذ ظهوره فى حياة «أدهم المصرى» بدرجة واضحة من الطبقية، كان الحشيش سلاح «الأداهم الصغار» من الفقراء والسفلة فى إسكات عقولهم وضمائرهم، والتحليق بعيداً عن مشكلاتهم لبعض اللحظات، ثم يسقطون على وجوههم، ليصافحوا مشاكل أكبر فى واقعهم. أما «الأداهم الكبار» فقد وجدوا فى الأفيون ملاذاً لهم، ولأن الكبير كبير والصغير صغير، فقد أصبح وصف «حشاش» أشد وطأة على النفس الأدهمية من وصف «أفيونجى». ففضلاً عما فى الوصف من دمغ لصاحبه بالفساد الأخلاقى، فإنه يحمل أيضاً وصمة طبقية بالانتماء إلى فئة «فقراء الكيف». هذا الطابع الطبقى ظل -ويبدو أنه سيظل أيضاً- مصاحباً لرحلة «أدهم المصرى» مع الكيف. أما سكة «البوظة» فكانت الأنسب للأداهم غير المدخنين، وهى عبارة عن شراب مخمّر وتصنع من الشعير، وشاع استخدامها كما يصف ويليام لين بين ملاحى النيل وآخرين من الطبقات السفلى فى مصر.
وفى سياق تبريره لشرعية تعاطى الحشيش والأفيون والبوظة، بادر «أدهم المصرى» بما يملك من قدرات خاصة على التبرير إلى الحديث عن دور هذه المشروبات فى تنشيط جسده وإنعاش نفسه وتحسين حالته المزاجية، خلافاً للخمر التى تُذهب بالعقل والوعى، وكأنه أراد أن يقول إن تناول المخدرات فضيلة تساعد على تنشيط الشخص للعبادة!. ولمَ لا ومؤرخ مثل «المقريزى» يذهب إلى أن الفضل فى اكتشاف الحشيش يعود إلى أحد المشايخ الذى تعكر مزاجه من الحر ذات يوم، فهام على وجهه فى الصحراء فأبصر نباتاً (نبات القنب)، تعاطى منه فاختلفت حاله، وراق مزاجه، وزال عنه الكدر ونشط فى العبادة!.