بقلم: د. محمود خليل
عبر كل التواريخ والمراحل والأحداث التى تقلب عليها المصريون كان النيل حاضراً فى إبداعات الكهنة والشعراء والزجّالين والروائيين والمؤرخين والجغرافيين. فى اللحظة التى كان يخشع فيها صوت كهنة آمون بشكر الإله القادر مانح الخصب لمصر، كان لسان الشاعر يخفق مخاطباً النيل: «من أى عهد فى القرى تتدفّق»، فى حين تلتمع كلمات فى ذهن زجّال فيتدفق دمعه «على سواقى بتنعى.. ع اللى حظه قليل يا نيل»، ويظل النيل يتهادى حتى يصل إلى كبير الرسامين بالكلمة «نجيب محفوظ» فيمد أذنه ليُنصت إلى «ثرثرة» المصريين «فوق» صفحة «النيل». فلنستمع إلى ما قالوا ونقله الراوى الأمين عام 1966.
تبدأ أحداث رواية «ثرثرة فوق النيل» فى شهر أبريل، شهر الكذب والعواصف. ويمثل الموظف المصرى البسيط «أنيس زكى» محور العمل. وهو موظف خائب، وزوج سابق، وأب سابق، لكنه ثرى بالحكمة. وطائف الحكمة لا يطوف برأسه إلا عندما تكون عامرة بالكيف، فمع قرقرة «الجوزة» وتصاعد الأنفاس تشتعل الأفكار فى رأسه، ويبدأ فى التنظير للعالم من حوله. نماذج كثيرة قدّمتها الرواية البديعة لشخوص يتحرّكون داخل المجتمع المصرى ويؤثرون بطريقة أو بأخرى فى حياة الناس. جمع بينهم إحساس بالضياع لأسباب مختلفة، وألّفت «الجوزة» بين قلوبهم، فأصبحوا إخواناً فى «السطل» والتحليق بعيداً عن الواقع.
لو أنك فتّشت فى سطور الرواية عن الأسباب التى دفعت أبطالها إلى الهروب من الواقع، فستجد أنها تتحلق حول فكرة «الإحساس بالفشل» المغروس فى نفوس الجميع، رغم ما يتمتعون به من نجاح ظاهرى فى الواقع. فهناك الناقد الحائر بين جذوره المحافظة فى الريف والحياة التى يعيشها فى القاهرة، والموظف الذى يلعن الوظيفة التى يعبد أصحابها «إله الأقدمية»، ويأمل كل موظف منهم فى أن يزيح من يسبقه من طريقه حتى يتمكن من الولوج إلى جنة «الترقية»، أو الحصول على «حافز»، والفنان الشهير الذى تنغص وظيفة أبيه «الحلاق» ما وصل إليه من مجد عبر ما يقدمه من أعمال تافهة، والصحفية التى تبحث عن فكرة لمسرحية جديدة قررت كتابتها.
تشارك الجميع فى الهروب من الواقع، وإن اختلفت بهم الأسباب، حتى بواب العوامة التى تتجمع فيها شلة الأنس كان يهرب بطريقته الخاصة. لم يتعاط الحشيش، مثلما كان يفعل السادة، بل هرب إلى الدين، وغرق فى العبادة حتى أسكرته. اجتهد أنيس زكى البطل الأول للرواية فى اكتشاف السر الذى يحاول البواب الهروب منه، لكنه لم يفلح فى ذلك، بيد أنه كان واثقاً أن عم عبده مثلهم يعيش حالة هروب، لكن بطريقته الخاصة.
ظلت شخوص الرواية على إدمانها للهروب من الواقع حتى واجهت لحظة حقيقة، حين دهست سيارتهم إحدى الفلاحات فى الطريق إلى «سقارة». حاول بعضهم -كما تعود- الهروب من الجريمة التى شاركوا فى ارتكابها، لكن الحدث هذه المرة كان مزلزلاً، ولم يكن من السهولة بمكان القفز عليه بالتحليق مع دخان الحشيش المتصاعد. الهروب أصبح جريمة أكبر وأخطر من جريمة القتل، وحانت لحظة المواجهة.