بقلم: د. محمود خليل
لم تتوقف الأقلام، ولا كفّت الألسنة خلال الأسابيع الماضية عن الحديث عن التأثيرات الاقتصادية لجائحة كورونا. وهى فى المجمل تأثيرات سلبية حقيقية وكل دول العالم –من أوله إلى ثالثه- تعانى منها. وثمة شعرة رفيعة وضعيفة للغاية تفصل بين الاقتصاد والسياسة. فالأوجاع الاقتصادية غالباً ما تكون لها ترجمة سياسية، خصوصاً فى حالة تزايد الضغوط المعيشية، وهو أمر يجب أن تلتفت إليه الحكومات الحصيفة.
فى الولايات المتحدة الأمريكية –وهى واحدة من كبريات الدول على مستوى الاقتصاد والسياسة والعلم والتكنولوجيا– اندلعت مظاهرات عارمة وعنيفة على هامش مصرع المواطن جورج فلويد على يد رجل شرطة. وأذكر أننى قلت لك إن هذه المظاهرات ليس مردّها مقتل مواطن صاحب بشرة سمراء خنقاً تحت ركبة شرطى، وأن ثمة أسباباً أعمق تقف وراءها، تتعلق بالأوضاع الاقتصادية والمعيشية الضاغطة التى تعرضت لها نسبة لا بأس بها من الأمريكيين، نتيجة توقف عجلة الاقتصاد جراء الإجراءات الاحترازية لمواجهة فيروس كورونا. واللافت أن المواطن الأمريكى الذى كان بالأمس يختبئ من كورونا ويخشى عدواها، نسى الأمر بُرمته واندفع إلى الشارع والتحم بالمظاهرات الحاشدة، فى اللحظة التى ذابت فيها الشعرة بين الاقتصاد والسياسة. الأمر نفسه ينطبق على المواطن الأوروبى الذى اندفع هو الآخر إلى المشاركة فى المظاهرات المتضامنة مع جورج فلويد. خرج الأوروبى إلى الشوارع هو الآخر يصرخ بوجيعته الاقتصادية فى شكل هيستيريا سياسية، متناسياً خوفه من كورونا وعدوى الفيروس، ودون أن يأبه بأعداد الوفيات والإصابات، تماماً مثلما نسيها المواطن الأمريكى، وكما غفل عنها –عن عمد- الشعب المكسيكى الذى خرج هو الآخر فى احتجاجات عارمة على اعتداء شرطى على مواطن.
هذه المظاهرات جميعها لها سبب مباشر، يتمثل فى تعرض مواطن لتعامل غير إنسانى من جانب الشرطة، ولها سبب عميق يتعلق بالأوجاع الاقتصادية التى يعانى منها مواطنو الدول المختلفة نتيجة إجراءات كورونا، ومن زخم الوجع الاقتصادى يبرز الوجه السياسى، وإحساس الكثيرين بالضجر نتيجة الضغوط التى تتكاثر عليهم. فالوباء يمثل ضغطاً نفسياً رهيباً على كل مواطنى العالم، وقد أصبحوا رهن «الحبسة فى البيوت»، ينهبهم القلق والتوتر وتلف الأعصاب نتيجة ما يسمعونه من أخبار رسمية وشعبية حول معدلات انتشار الوباء، وترافق مع ذلك ضغوط معيشية ليست بالهينة. ثم أتت قشة السياسة، فقصمت ظهر البعير الذى ناء بما يحمل.
قلت لك غير مرة إن الشعوب قادرة على استيعاب الكثير من الضغوط ما دامت تجد فى جعبتها مساحة للاستيعاب، لكن ما إن تمتلئ الجعبة حتى يتحول صاحبها من حال إلى أخرى بمجرد أن يضاف إليها ولو قشة صغيرة. فالعبرة هنا ليست بالحجم أو الوزن، بل بالقدرة على الاستيعاب. ذلك ببساطة ما حدث لأصحاب البشرة السمراء والبيضاء فى الولايات المتحدة الأمريكية وعدد من الدول الأوروبية والمكسيك. حكومات دول العالم المختلفة وهى منشغلة فى بحث التأثيرات السلبية لفيروس كورونا على موضوع الاقتصاد مطالبة بأن تفتح لبعض الوقت «كتاب السياسة».