بقلم: د. محمود خليل
كثيراً ما يتحدث «أدهم المصرى» عن العدل وكم يصرخ منادياً به إذا مسه ظلم، فى الوقت الذى لا يتورع فيه عن ظلم غيره حين تتاح له الفرصة. اقرأ تفاصيل الواقعة التى حكاها ويليام لين فى كتابه «المصريون المحدثون: شمائلهم وعاداتهم»، وتأمل كيف يدارى «أدهم» العدل ما دام يدور مع شبكة مصالحه، وكيف يسرع -على النقيض- إلى ظلم غيره متناسياً شعاراته المطالبة بالعدل إذا وجد فى ذلك منفعة أو فائدة تعود عليه، وكأنه مستبد ينتظر فرصة!.
وقعت أحداث القضية التى رواها «ويليام لين» عام 1833 خلال حكم محمد على باشا الكبير، وتبدأ بوفاة واحد من كبار تجار القاهرة عن أملاك قدرها ستة آلاف كيس، ولم يكن له وارث غير بنت واحدة. فى ذلك الوقت كان شاهبندر تجار مصر هو السيد أحمد المحروقى، ولعلك قرأت عن دوره فى مقاومة الحملة الفرنسية، وكذلك الدور الذى لعبه فى ثورة الشعب المصرى ضد مظالم الوالى التركى أحمد باشا خورشيد عام 1805، وهى الثورة التى قادها المحروقى مع الشيخ الشرقاوى والسيد عمر مكرم، وكان من ضمن نتائجها تولّى محمد على الحكم. ومقابل ذلك كان «المحروقى» من الشخصيات المقربة للوالى بحكم موقعه كشاهبندر تجار مصر، وبحكم الدعم الذى يقدمه له على المستوى الشعبى. انظر كيف أدى رجل بهذه التركيبة وهذا التاريخ حين تلبسته الروح الأدهمية.
كان السيد المحروقى على صلة بالتاجر الذى أفضى إلى ربه وكان على علم تام بثروته، وما إن عرف بموته حتى ناداه «أدهم» القابع داخله بالتحرك لمشاركة ابنة التاجر فى «الورثة»، بحث وفتش عن «أدهم صغير» يساعده فى اللعبة التى قرر أن يلعبها حتى يحقق هدفه، وجده ممدداً على مصطبة أمام بيت كبير، حيث يعمل بواباً لدى أحد كبار التجار، عرض المحروقى على البواب رشوة سخية مقابل أن يعلن أمام القاضى أنه ابن شقيق التاجر المتوفى، ولما كانت القضية متصلة بثروة كبيرة فقد تم استدعاء عدد من أكابر علماء المدينة ليحكموا فيها، وكانوا جميعاً محل رشوة «المحروقى» أو تأثيره، وأتى أيضاً بمجموعة من شهود الزور ليشهدوا بصدق ادعاء البواب بأنه «ابن المتوفى»، وكانت النتيجة أن حكم لابنة التاجر بنصف الثروة (3 آلاف كيس) وبالنصف الآخر للبواب. واستولى «المحروقى» بذلك على نصف الميراث بعد أن أعطى البواب «أدهم الصغير» 300 قرش مقابل مشاركته اللعبة. أثناء نظر الدعوى كان مفتى مصر خارج البلاد فلما عاد شكت له ابنة التاجر الظلم الذى حاق بها. كشف المفتى أمام الوالى الكبير اللعبة التى أدارها «المحروقى» بعناية، فأعيد الحق إلى صاحبته.
نحن أمام واقعة أدهمية متكاملة الأركان. ففيها شخص ثار بالأمس ضد ظلم الفرنسيين ووُلاة الترك يتحول إلى «نصاب محترف» يستولى على ثروة الغير بعد أن أصبح فى موقع نفوذ، وفيها علماء دين يشهدون زوراً مقابل الحصول على رشاوى مادية، والبعض الآخر يزور القول مجاملة للمحروقى، وأدهم صغير (البواب) يئن من الظلم الواقع عليه وعندما واتته الفرصة ظلم غيره مقابل قروش معدودات، وعندما جد الجد واكتشف الوالى الجرم كان «أدهم الصغير» كبش فداء للجميع، إذ لا يذكر راوى القصة أن عقاباً نزل بالمحروقى أو شهود الزور من العلماء.