بقلم: د. محمود خليل
لم يكن شهر رمضان بعيداً عن أقلام الروائيين الذى امتازوا بعمق الملاحظة للظواهر التى تشكل خريطة الحياة داخل بر مصر. مشاهد رمضان كانت حاضرة بقوة فى رواية «خان الخليلى» التى تقدم وصفاً لطقوس الحياة الرمضانية للمصريين خلال النصف الأول من القرن العشرين. تبدأ الصورة الرمضانية التى رسمها «نجيب محفوظ» بمشهد استعداد أسرة مصرية للشهر الكريم، فهو «شهر له حقوقه كما أن له واجباته» كما قالت الأم وهى تغازل زوجها وابنها الكبير لكى يوفرا لها مبلغاً تشترى به «احتياجات رمضان» من «النقل والكنافة والقطائف». ومثل كل الأسر المصرية كانت أسرة «عاكف أفندى» التى تدور حولها الرواية، تعانى من قلة المال المتوفر فى اليد، بسبب أحداث الحرب العالمية الثانية (1939-1945). فقد أدى شح الاستيراد وقلة الأعمال وتوقف المشروعات إلى غلاء مستطير ودخل قليل. لكن المصرى تعود على طقوس معينة خلال هذا الشهر وليس عنده أى نوع من التسامح فى إتيانها. فالعادة غلابة. ولا يوجد قانون فى حياة الإنسان أقوى من قانون العادة. عاكف أفندى وزوجته كان لديهما الاستعداد لتحمل ضيق الحال ومرارة الحرمان طيلة أشهر العام، إلا رمضان.
يقول «محفوظ»: «وجاء مساء الرؤية وانتظر الناس بعد الغروب يتساءلون، وعند العشى أضاءت مئذنة الحسين إيذاناً بشهود الرؤية. وقد اجتزأوا بالإضاءة عن إطلاق المدفع لظروف الطوارئ. وازّيّنت المئذنة بعقود المصابيح مرسلة على العالمين ضياءً لألاء، فطاف بالحى وما حوله جماعات مهللة هاتفة (صيام صيام كما أمر قاضى الإسلام) فقابلتها الغلمان بالهتاف وبنات بالزغاريد، وشاع السرور فى الحى كأنما حمله الهواء السارى». هذا المشهد يصف ليلة الرؤية فى مصر الأربعينات وانفعال الأهالى بها، وهو لا يختلف كثيراً عن مشاهد ليلة الرؤية التى حكاها «الجبرتى» فى مصر القرن الثامن عشر وما قبله. فإطلاق المدافع كان هو طقس الإعلان عن شهود الرؤية، لكنه تعطل فى الظرف الذى يحكى «محفوظ» عنه بسبب الحرب. كما أن هتاف «صيام صيام.. كما أمر قاضى الإسلام» هتاف موروث عن الأجداد، وفى حالة عدم ثبوت الهلال كانوا يرددون «فطار.. فطار». الأمر الوحيد الذى اختلف فى مشهد الرؤية الذى يحكيه نجيب محفوظ عن رمضان الأربعينات يتعلق بموكب رمضان الذى حكى «الجبرتى» أن «المحتسب» كان يتصدره ومن ورائه أرباب الحرف والصناعات وصبيانهم، وفرق العزف التى تحمل الطبول والزمور، وحملة الرايات الصوفية وغيرها. فقد بدأ هذا الطقس فى الاختفاء خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر، بعد التحديثات التى أدخلها محمد علِى علَى الواقع الاجتماعى المصرى، حيث أصبح الموكب يتشكل من طوابير من الجنود، ثم اختفى بعد ذلك تماماً ولم يبق منه إلا الذكرى الراقدة فوق سطور الكتب.
انتقلت الصورة الرمضانية التى قدمها «محفوظ» بعد ذلك إلى وصف نهار الموظف الصائم وتراخيه عن العمل ورغبته الملحة فى النوم، ومشقة ساعات الصباح الأولى عندما يفاجأ بنزول بلا دخان أو قهوة، ثم العودة والخلود إلى النوم إلى ما قبل الإفطار بساعة يهرع فيها الكبار إلى كتاب الله يتنسمون آياته، والشباب إلى التطلع إلى الحلم القادم بانطلاق أذان المغرب بصوت الشيخ على محمود أو الشيخ محمد رفعت. ثم ينتقل إلى مشاهد السهرات الرمضانية التى تنطلق بعد الفراغ من الإفطار وتمتد إلى ما قبل الفجر، حين يحين موعد السحور، وجلسات السمر على المقاهى والتسلية بقزقزة اللب والفستق -إذا تيسر- وتبادل النكات والتعليقات حول الحلال والحرام فى ليل رمضان. وغير ذلك من أحاديث قديمة متجددة فى حياة المصريين، أجاد «صاحب نوبل» فى وصفها وتبيان تفاصيلها برواء لا يعدله رواء.