بقلم: د. محمود خليل
رغم اتصال العديد من ثوار يوليو بالجماعات الراديكالية التى سيطرت على المشهد الشعبى قبل 1952، ووجود عدة أشهر من العسل التى سادت العلاقة بين الطرفين بعد نجاح الضباط الأحرار فى السيطرة على الحكم، فإن ذلك لم يدُم طويلاً. فسرعان ما دبَّت الخلافات فيما بينهما. تعلّم الكثير من أعضاء مجلس قيادة الثورة من هذه الجماعات دروساً موسَّعة فى «الراديكالية» و«المزاج الحاد» وتبنى منهجية «البتر» فى الصراعات، ومن المفارقة أنهم طبقوا ما تعلموه داخل هذه الجماعات على الجماعات نفسها عندما اختلفوا معها.
فرغم استثناء جماعة الإخوان من قرار حل الأحزاب السياسية (عام 1954)، وقرار مجلس القيادة بفتح التحقيق من جديد فى قضية مصرع حسن البنا (1949)، ودعوة الإخوان للمشاركة فى الوزارة التى أزمع تشكيلها، فإن الخلاف سرعان ما دبَّ بين الطرفين. فى أكثر من مناسبة ذكر «عبدالناصر» أن «الإخوان» تريد فرض «وصاية» على الثورة، واتهمه الإخوان ورفاقه بالرغبة فى الاستفراد بالحكم والحيود عن طريق الديمقراطية، ناهيك عن الخلافات الأخرى حول حدود الملكية الزراعية التى كان يرى الإخوان رفعها إلى 500 فدان، فى حين أصر «عبدالناصر» على وضع سقف لها بـ«200 فدان». انطبق الأمر نفسه على الحركات الشيوعية التى اختلفت مع الحكام الجدد، وكان لها صوت مسموع وسط العمال والطلبة، وهو ما أزعج مجلس القيادة، وتكرر المشهد مع الحزب الاشتراكى الذى يقوده أحمد حسين (مؤسس تنظيم مصر الفتاة)، وكان يحذر من الاستبداد والتنكب عن طريق الديمقراطية. ولستَ بحاجة إلى تذكيرك بالموقف الحاسم الذى اتخذه مجلس قيادة الثورة من حزب الوفد وغيره من أحزاب ما قبل الثورة.
كان المواطن العادى يشاهد التفاعلات المختلفة للصراع بين هذه الأطراف ومجلس قيادة الثورة دون اشتراك فيها أو تفاعل معها. وأغلب مَن كانوا يتحركون فى المظاهرات التى شهدتها مصر خلال العامين 1953 و1954 كانوا من المسيَّسين، أما المصريون العاديون فاستدعوا من مخزونهم التاريخى فكرة «الفرجة» أو «المشاهدة» فى التعامل مع ما يحدث، ونظروا إليه كفصل جديد من فصول الصراع على السلطة. انتهى مشهد الصراع أواخر عام 1954 بتقديم العديد من أعضاء جماعة الإخوان للمحاكمات، بعد محاولة اغتيال جمال عبدالناصر فى المنشية (1954)، وحكم على ستة منهم بالإعدام، وبأحكام متفاوتة بالسجن على آخرين، وتم القبض على العديد من أعضاء الحزب الاشتراكى بمن فيهم الأستاذ أحمد حسين، وكذلك على كثيرين من أعضاء الحركات الشيوعية، واتخذت قرارات حاسمة بحرمان الوزراء الحزبيين فى مصر ما قبل الثورة من ممارسة حقوقهم السياسية، كان من بينهم عدد ممن ذهبوا إلى مقر القيادة العامة للتهنئة، وبعض الأسماء التى شاركت فى لجنة إعداد الدستور (1953).
ذكرت لك أن المواطن العادى غير المسيَّس كان يتابع هذه الأحداث بمنطق «المشاهدة» وليس المشاركة، ويبدو أنه تبنَّى وجهة نظر تذهب إلى أن هذا الصراع لا ناقة له فيه ولا جمل، وأن خيار المراقبة من بعيد هو الخيار الأمثل. وبانتهاء عام 1954 أغلقت صفحة وبدأت صفحة جديدة فى تاريخ جميع الأطراف التى تفاعلت على ساحة الصراع السياسى فى مصر بعد عام 1952. وهى صفحة خرج منها المواطن بدرس مهم ظل يرافقه طيلة العقود التالية، درس «خليك بعيد.. أسلم».