بقلم : د. محمود خليل
عاش الأداهم -خصوصاً من الشباب- أحاسيس مريرة خلال السنوات الثلاث الأولى من حكم «السادات»، تختلط فيها المعاناة المعيشية التى تكويهم بنارها، وليس أمامهم سوى الصبر عليها، احتراماً لحالة الحرب التى تستعد لها الأدهمية، بأحاسيس الحسرة على القرار السيادى المؤجل بالتحرّك لاسترداد الأرض الضائعة. كان «السادات» نفسه مضطراً لتأجيل القرار حتى يحسن الترتيب للخطوة الأهم التى ستُحدد مستقبل مصر، سواء على مستوى التخطيط أو التدريب أو التسليح أو التنسيق الإقليمى والدولى، فلما حان الحين اتخذ قرار العبور. تحفّظ «الأداهم» فى البداية وهم يستمعون إلى البيانات العسكرية التى يبثها الراديو والتليفزيون، بعد تجربتهم المحبطة مع إعلام 1967، لكن الأمور بدأت فى الاختلاف بعد أن بدأت عدسات التليفزيون وكاميرات الصحف تنقل صور طوابير الأسرى الإسرائيليين، فخرجوا يرفعون الصفحات التى تحمل هذه الصور فى أيديهم، ولصقوها على الحوائط والفتارين، ولكنّ إحساساً بالخوف لم يشأ أن يغادر قلوبهم. فالتجربة علمت «الأداهم» ألا يفرحوا فرحة كاملة، لأن عملهم يأتى منقوصاً فى بعض الأحوال.
بعد عدة أيام من الانتصارات، وقعت واقعة ثغرة الدفرسوار، وارتبكت الأمور بعض الشىء، قاوم جيشنا وأهالى السويس جنود العدو ببسالة، وحوصر الجيش الثانى بالقوات الصهيونية التى قامت بعملية العبور الارتدادى بقيادة السفاح «شارون». هدأت الأمور بعض الشىء بعد وقف إطلاق النار واستمرار الحال على ما هى عليه، لكن القلق كان يعتصر الأداهم نتيجة وجود أبناء لهم فى «الحصار». كانت الكلمة الأخيرة هى الأكثر شيوعاً على ألسنة الأداهم والموضوع الأكثر طرحاً فى أحاديثهم. آباء وأمهات يحلمون بعودة الأبناء، وزوجة تنتظر زوجها، وطفل ينتظر أباه، وخطيبة تنتظر خطيبها، ومحبة تنتظر حبيبها. قصص كثيرة كانت تتسكع على ألسنة الأداهم خلال فترة الحصار تحولت إلى حكاوى لا تنتهى عن صدمات تعرّض لها العائدون من الحصار نتيجة هروب خطيبة أو حبيبة أو زوجة إلى عش آخر بعد أن طال الانتظار، ولم يكن بمقدور أحد فى حينها تحديد مساحات الدقة والمبالغة فى هذه القصص، لكن فى كل الأحوال كانت فرحة المصريين بالنصر تغطى على أى حكاوى.
هدأت الأمور بعد مفاوضات الكيلو 101 الأولى والثانية وبدء التحضير لمؤتمر جنيف للسلام، وظهر وزير الخارجية هنرى كيسنجر على مسرح الأحداث، وقام بجولات مكوكية بين الطرفين المصرى والإسرائيلى للوصول إلى سلام بين الطرفين، ثم كانت زيارة الرئيس الأمريكى «نيكسون» إلى مصر عام 1974، وهى الزيارة التى قابلها «السادات» بحفاوة بالغة، وأخرج لها مسيرات شعبية نظمها رجال حكمه للترحيب بالزائر الفريد من نوعه، بعد سنوات طويلة قضاها «الأداهم» يتأفّفون من أمريكا والأمريكان رعاة الإمبريالية والدولة الصهيونية التوسّعية.
لم يتبنَّ الأداهم رأياً مشتركاً فى ما يتعلق بالخطوات والأحداث المدهشة التى خطط لها الرئيس «السادات»، فقد رحب الكبار كالعادة بما يحدث، لأنهم كانوا أميل إلى الهدوء والاستقرار بعد سنوات طويلة من الصراع مع العدو الصهيونى، أما الشباب من أبناء الجيل الذى تربّى فى أحضان التجربة الناصرية فى الستينات، فقد كان لهم رأى آخر، فقد نظروا إلى «السادات» كخصم لدود لميراث «عبدالناصر»، وأنه ينقلب على الدولة الناصرية وتوجّهاتها، وتعجّب بعضهم من أن يقترن حدث النصر على إسرائيل بـ«السادات»، وأن تقترن الهزيمة باسم «عبدالناصر»!.