بقلم: د. محمود خليل
الأثرة والأنانية والهروب من معونة الآخرين وتبرؤ المرء من أقرب المقربين إليه ليست أخلاقيات مرتبطة بظهور الأوبئة وتفشيها داخل المجتمعات، بل هى تعبير عن وباء باطنى يسكن بعض النفوس والقلوب فيحيلها إلى أرض سواد قبل أن يظهر الوباء بمبناه ومعناه الواقعى فى الحياة الدنيا. بعض الأخلاقيات الرديئة التى اقترنت بظهور فيروس كورونا بين المصريين ليست طارئة أو مؤقتة، بل هى أصيلة متأصلة داخل البعض للأسف الشديد. الأوبئة وما تحمله من محن وأزمات لا تحيى الأخلاق الرديئة من عدم، إنها فقط تزيح الغطاء عنها، وتمنحها فرصة الانطلاق.
استمعت إلى التسجيل الصوتى الذى تستغيث فيه الدكتورة عبلة الكحلاوى بكل من لديه القدرة على التدخل لإنقاذ مجموعة من المسنين القاطنين بدار «الباقيات الصالحات» بأكتوبر. حكت «الكحلاوى» أن حوالى 9 نزلاء أصيبوا بالمرض، وأنها استغاثت بأبناء وبنات بعض القاطنين لديها ممن لم تصل إليهم العدوى بعد للمجىء إلى الدار وتسلمهم، ولم يستجب لها سوى أبناء اثنين من النزلاء فقط، أما الباقى فقد رفضوا. قرأت أن وزارة التضامن استجابت للاستغاثة وتفاهمت مع وزارة الصحة لإرسال فريق طبى لرعاية المصابين، وتبرعت إحدى الجمعيات بتوفير مستلزمات الوقاية من العدوى لمدة شهر.
لا نريد أن نعمم ونقول إن تنكر الأبناء للآباء والأمهات خلق عام. فثمة حكايات أخرى ذات صلة بكورونا ظهر فيها أبناء حاولوا الاجتهاد فى إنقاذ آبائهم أو أمهاتهم بكل ما أوتوا من قوة ومن إخلاص الابن لوالديه، لكن علينا أن نعترف أن أبناء المسنين بالباقيات الصالحات لهم أشباه كثر يسعون بيننا. وعلينا أيضاً أن نعترف أن التنكر للوالدين ليس التجلى الوحيد لحالة انهيار الأخلاق داخل المجتمع المصرى، بل ثمة تجليات أخرى عديدة لهذا الانهيار نلمحها فى حياتنا اليومية. الإحساس بالوجع من الأخلاق المتردية يدل على أننا لم نكن كذلك. لقد تحدث «دى شابرول» فى كتاب وصف مصر عن أخلاق المصريين، وقال إن المصرى مجبول على احترام الكبير. فالشيخوخة لها قيمتها ومقامها فى المجتمع، والمسألة لا تقتصر على احترام الابن لوالديه، لأنه يلقن منذ الصغر ضرورة احترام الشيخ الكبير وتبجيله ورعايته.
أخلاق المصريين تتكسر باستمرار تحت معول «الاسترخاص»، وجوهره «استرخاص حياة الآخرين». ومن يسترخص حياة غيره، يسهل عليه أن يستحل ماله وكرامته وعقله ونفسه. كورونا رفع الغطاء عن بئر الأخلاق الآسنة ففاحت رائحتها فى كل اتجاه، فظهرت فى واقعة «الباقيات الصالحات»، واستغلال حاجة الناس إلى سلعة مثل الأدوية وخلق سوق سوداء حولها، وفى التعامل المستهين مع المرضى الذين يعانون، وفى عدم حماية النفس والغير باتخاذ الإجراءات الوقائية المطلوبة، وفى حواديت بلازما المتعافين، وفى التدليس والكذب على الواقع، وعدم الصدق فى مواجهة المحنة التى نعيشها. سوف نسمع خلال الأيام القادمة قصصاً عديدة شبيهة ستبقى شاهداً على تردى الأخلاق الذى كشفه فيروس كورونا. ويبقى أن المسألة لا ترتبط بمجرد أزمة، بل بتحولات تمت بمنتهى البطء داخل مجتمعنا المصرى على مدار سنوات متلاحقة وصلت بنا إلى أرض السواد.