بقلم: د. محمود خليل
مرت سنوات الثمانينات هادئة، ولم تشهد بعد حوادث 1981 أية وقائع إرهابية جديدة. وكان الفضل فى ذلك يعود إلى السياسة الماكرة التى اتبعها «مبارك»، فجعلته يتخلص مؤقتاً من المتطرفين الجانحين إلى حمل السلاح بالزج بهم إلى أفغانستان للجهاد ضد الإلحاد، أما جماعة الإخوان فقد لعبت دور المظلة الكبرى لتسفير المجاهدين، بالإضافة إلى إفساح هامش حركة لها داخل مجلس الشعب يجعلها أداة من أدوات إضفاء نوع من الديمقراطية الشكلية على المشهد. بطبيعته لم يكن «مبارك» ميالاً إلى الحسابات، لذلك لم يتحسب وهو يُسخر مؤسسات الدعوة والإعلام فى مصر لدعم فكرة «الجهاد ضد الإلحاد» أنه يلعب بالنار ويكرس بطريقة عملية -بل ورسمية- للأفكار الجهادية التى أصَّل لها سيد قطب وتبناها من بعده المتطرفون الإسلاميون بدءاً من صالح سرية (1974) وانتهاء بعبدالسلام فرج (1981).
طيلة فترة الثمانينات كثرت الكتابات وتعددت الأصوات التى تفنِّد قضية «الجهاد ضد الإلحاد» وتستدل بأفكار تقترب من أفكار خطرة رددها أبوالأعلى المودودى زعيم الجماعة الإسلامية فى باكستان، وتلقفها وطورها سيد قطب فى كتابه «معالم فى الطريق». وتبناها بعد ذلك كل مؤسسى التنظيمات العنقودية التى تقوم على فكرة العنف المسلح ضد الحكومات والمجتمعات. ألَّف يوسف القرضاوى فى ذلك الوقت كتابه «الصحوة الإسلامية بين الجمود والتطرف»، وشاعت أفكار خطرة أخرى على لسان الدكتور عمر عبدالرحمن، بل وأحياناً على لسان الشيخ محمد الغزالى. فقد كان هناك اتفاق على ضرورة إحياء فكرة الجهاد فى مواجهة الإلحاد حتى يتم شحن الشباب للسفر إلى باكستان ومنها إلى أفغانستان لينضم إلى كتائب «الأفغان العرب».
وساهم فى انتعاش الخطاب المحرض على الجهاد فى مصر صعود فتاوى الجهاد ضد الإلحاد على ألسنة مشايخ المملكة العربية السعودية. وقد مثلت المملكة الممول المالى الأهم للحملة الجهادية التى خرجت من بلاد العرب، وشكل الشباب المصرى الكتلة الأكبر والأهم فيها. وليس يخفى عليك أن الخطاب الدينى المصرى عاش حالة من التبعية للخطاب السعودى خلال فترة الثمانينات والتسعينات. وقد لمَّح المفكر «روجيه جارودى» إلى تفاقم تأثير الإسلام السعودى على حالة التدين داخل مصر وغيرها من بلدان العالم الإسلامى. وتحدد جوهر تأثير الفكر الدينى السعودى على الخطاب الدينى المطروح فى مصر خلال هاتين الحقبتين بالرعاية المالية التى توليها المملكة للمؤسسات الدينية الرسمية والشعبية فى الديار الأدهمية.
وقد دفع الجميع ثمناً غالياً للترويج لفكرة «الجهاد ضد الإلحاد» بعد انتهاء الحرب الأفغانية ضد الاتحاد السوفيتى (1988- 1989). الولايات المتحدة الأمريكية دفعت ثمناً باهظاً فى 2001، وكذلك دول الخليج العربى، ثم دفعت مصر الثمن فى مواجهة تنظيم «العائدون من أفغانستان» وهم هؤلاء الشباب الذين تطوعوا للجهاد فى أفغانستان، وخاضوا تجارب قتالية مريرة، كنزوا منها خبرات عسكرية شديدة الخطورة وعادوا ليجعلوا من مصر حقلاً لاختبارها. وقتها أفاق «الأداهم» على الفخ الذى وقعوا فيه حين استجابوا للخطاب الرسمى الداعى إلى «الجهاد» ضد الإلحاد، وكيف أن الرسميين الذين تبنوا هذا الطرح لم تتعدَّ حساباتهم دائرة المصالح وضخ السيولة المالية، أما النتائج الخطرة التى يمكن أن تترتب على ذلك فى المستقبل فلم تشغل بالهم. وعبر هذه التجربة تكرس فى الوجدان الأدهمى قاعدة أخلاقية جديدة هى: «وقت الله يعين الله»!.