بقلم: د. محمود خليل
نماذج عديدة تجدها لـ«الحالة الأدهمية» فى الجزء الأول من السيرة الذاتية للدكتور خليل حسن خليل المعنون بـ«الوسية» وتدور وقائعه فى عصر مصر ما قبل ثورة يوليو 1952. خرج بطل الرواية إلى العمل مضطراً فى وسية أحد الخواجات بعد أن استولى خواجة آخر على أرض أبيه مستغلاً حاجته إلى المال فأخذ يستدين منه حتى سقطت فى يد الأخير. مثّل «خليل» تجلياً من تجليات «أدهم المصرى» حين يحاول العيش بشرف، فيؤدى عمله بإخلاص، ويجتهد فيه قدر طاقته منتظراً المثوبة من الخواجة، لكن الأخير كان شحيحاً مقتراً، يعجبه شغل خليل، لكنه لا يعطيه إلا القليل ليقيم أوده ويظل حياً يسعى فى خدمته. لم يكن «خليل» استثناء فى ذلك، بل كان الخواجة يعامل كل مَن يعمل لديه فى المزرعة على هذا النحو. أبى الموظف خليل حسن خليل على نفسه أن يمد يده إلى مال الخواجة ليأخذ منه ما يعوض به حقه المسلوب، كان ضميره حياً يقظاً يرى أن ذلك ليس حلاً، بل الحل أن يطالب الخواجة بمنحه دخلاً يتناسب مع ما يقوم به من جهد وما يؤديه من أدوار.
خلافاً لخليل ظهرت نماذج أدهمية أخرى داخل المزرعة، كان أبرزها «حسين الباشكاتب» الذى دأب على نفاق الخواجة وإذلال نفسه أمامه. كان الخواجة يتعمد إهانته بالشتم والسب أمام الجميع، وأحياناً ما كان يضربه ضرباً مهيناً فيصفعه على وجهه وقفاه فيزداد الباشكاتب انسحاقاً أمامه. استغرب خليل من سلوكه وسأله ذات مرة لماذا يسمح للخواجة بأن يوجه إليه هذه الإهانات كلها؟. أجابه الباشكاتب بأنه يأخذ ثمن كل إهانة كاملاً، فإذا شتمه الباشكاتب مد يده وسرق من مخزن الغلال ما يبيعه للتجار، أما إذا مد يده عليه فذلك يوم السعد، لأنه يمد يده إلى مال الخواجة فيأخذ منه، ثم يسوى الحسابات بطريقته بحيث لا يظهر فيها أى سرقة. فهم خليل الدرس. فالباشكاتب أدهم كان يسرق حق الناس لحساب الخواجة، ثم يسرق الخواجة لحساب نفسه!.
نموذج آخر للأداء «الأدهمى» داخل الوظيفة تجده فى شخصية الشيخ سالم الذى صاحبه «خليل» طيلة عمله فى مزرعة الخواجة. كان «خليل» يستغرب من المحبة المشفوعة بالدموع التى يبديها الشيخ سالم للخواجة، ويستغرب أشد الاستغراب من تفانيه فى خدمته بثمن بخس قروش معدودات، حتى اكتشف الحقيقة ذات يوم وعلم أن الشيخ سالم يسرق الخواجة هو الآخر من خلال الغش فى عدد الأنفار الذين يعملون فى الأرض وأنشطة أخرى عديدة تقع فى دائرة مسئولياته، وأنه تمكن من شراء «طين» فى بلدته بما ادخره من سرقة مال الخواجة. اكتشف خليل حقيقة الشيخ سالم على يد خفير المزرعة الشيخ خطاب. وشخصية الأخير حدوتة فى ذاتها، فقد اكتشف خليل ذات يوم أنه لص كبير يسرق الغلال من مخزن المزرعة، تعجب وسأله: كيف تبرر لنفسك السرقة وأنت تصلى الفرض جماعة داخل المسجد.. كيف لم تنهَك صلاتك عن السرقة؟. رد عليه الخفير قائلاً: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر والبغى»، وأنا لا آتى الفحشاء ولا أشرب المنكر ولا أظلم بل أنا مظلوم كل الظلم.. القرآن لم يقل لنا إن «الصلاة تنهى عن سرقة الخواجة»!.
ذات يوم تمكَّن خليل من تحريض الأهالى ممن يعملون فى المزرعة على الذهاب إلى الخواجة والمطالبة بحقوقهم، فأدبهم الخواجة فى المركز حتى أحسن تأديبهم. بعد هذه الواقعة آوى خليل إلى عشة الخفير ودار بين الاثنين حوار حول ثورة الأهالى، فأخذ «خطاب» يسخر من هوجة الأهالى التى انتهت إلى لا شىء.. وأفهمه أن أولى خطوات سكة السلامة للعيش فى الوسية تتمثل فى: «ما تزعلش اللى فى إيدهم أكل عيشك» والثانية أن ينضم إلى «ركب الأحرار» ممن يسرقون الأهالى لحساب الخواجة ثم يسرقون الخواجة لحسابهم الخاص».. فأمثاله وأمثال الشيخ سالم هم الأحرار فى مجتمع العبيد!.