بقلم: د. محمود خليل
انشغل سيد قطب بالسلطة على نحو كبير، بسبب إحساسه بالاضطهاد منها، لذلك كان اهتمامه بتأكيد مبدأ الحاكمية. ولم يكن انشغاله بالسلطة مقصوراً على مصر فقط، بل امتد إلى السّلطة فى كل زمان ومكان. فعندما تصدّى للحديث عن موضوع الجهاد مثلاً عتب على هؤلاء الخانعين الذين يضعفون أمام الفكرة التى يروّج لها الغرب حول أن الإسلام انتشر بالسيف، وأصر على أن الجهاد فى الإسلام له هدف أساسى يتمثّل فى إزالة كل الطواغيت التى تحول ما بين الشعوب والاستماع إلى رسالة القرآن.
وهو يقصد بالطواغيت هنا كل السلطات (السياسية أو الاقتصادية) التى تمنع الدعوة إلى الله من الوصول إلى الشعوب. ولو عاش سيد قطب إلى الآن لأدرك أن الإسلام لا يحتاج إلى سيف ولا حربة حتى ينتشر. فالإحصاءات تقول إن عدد المسلمين تضاعف أكثر من سبع مرات خلال القرن العشرين، إذ كان عددهم مع بداية القرن (200 مليون مسلم)، وقد وصل مع نهاية القرن إلى (1500 مليون نسمة). لقد كان وما زال الجهاد الذى يحتاجه المسلمون حقيقة هو بذل الجهد من أجل تغيير أوضاعهم المعيشية والإنسانية، وحل مشكلاتهم فى الصحة والتعليم والتنمية وغير ذلك من أمـور، ناهيك عن بذل الجهد فى طاعة الله تعالى ومرضاته.
لم يكن سيد قطب -وهو يقدم هذه الأفكار- يجلس فى قصر أو يتجول فوق ظهر «يخت»، بل كان يكتبها داخل سجون الستينات، لذلك فهى أفكار أنتجتها الأزمة وغذّتها المحنة، ووجدت صداها جلياً بعد ذلك فى بيئة السبعينات، وما تلاها، حيث بدأت تسيطر على مصر حالة انفلات عام، تمثل وجهها السياسى فى الحديث المصنوع عن الديمقراطية الشكلية، ووجهها الاقتصادى فى الانفتاح الاستغلالى، ووجهها الفكرى والثقافى فى تفاهة العديد من الأفلام السينمائية، وركاكة الرسالة الإعلامية. إن سياق الحال هو الذى أعطى لأفكار سيد قطب وجاهة لدى البعض، رغم ما يشوبها من عدم الدقة والرومانسية الحالمة المرتبطة بتكوينه كأديب.
المشكلة الأساسية أن سيد قطب وغيره من منظرى الفكر المتطرف انشغلوا بالسلطة أكثر مما شغلوا أنفسهم بالشعوب، ولم يستوعبوا أن التغيير أصله «ثقافة». فالتغيير الثقافى هو المقدّمة الأهم والأخطر للتغيير على أى من المستويات السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو المعرفية، لكن سيد «قطب» وقع فى نفس المطب الذى وقع فيه غيره، حين استسهل الحديث عن السلطة واختزل الأمر فى شخص أو هيئة أو جهة، إذا تغيرت فسوف تتغير كل الأمور فى المجتمع، ويبدو أن إحساس سيد قطب بسيطرة الثقافة الوسطية على الرؤية الدينية للمصريين ستدفعهم إلى رفض أفكاره وفهمه المتطرف للإسلام، فانصرف عن المجتمع واتجه إلى السلطة.
فى كل الأحوال نستطيع القول إن هناك تقصيراً فى تحليل وتفكيك أفكار سيد قطب، يستثنى المرحوم حسن الهضيبى حين اجتهد فى دحض أفكار التكفير والتجهيل التى نمت وترعرعت خلال فترة الستينات فى كتابه «دعاة لا قضاة»، وأثبت بالأدلة القرآنية والنبوية حمق من يذهبون هذا المذهب فى مواجهة المجتمع. وأتصور أن الكتاب ليس كافياً فى هذا المقام، بل لا بد من وجود كتابات أخرى أكثر تفصيلاً وأقدر على تفنيد النسيج الفكرى، الذى قدمه سيد قطب، بشرط الوعى بالسياق والملابسات التى أحاطت بإنتاج أفكاره.