بقلم: د. محمود خليل
الصبر فى مواجهة عنت الحياة ومشكلاتها سمة أساسية من سمات «أدهم المصرى». يحكى نجيب محفوظ -فى الحكاية الأولى من أولاد حارتنا- أن «أدهم» لما طُرد من البيت الكبير عمل بائعاً سريحاً، وأخذ يعانى مما يعانيه أبناء هذه الفئة من شقاء السعى وتشقق الأقدام وتآكل المفاصل، ناهيك عن عنت مَن حوله فى «الفصال»، حتى الأطفال لم يرحموه. فعندما غلبه التعب واستلقى أسفل شجرة وراحت عيناه فى النوم، غافله مجموعة أطفال وانقضوا على عربة اليد التى يبيع عليها فقلبوها، فقام مفزوعاً وأخذ يسب ويلعن، ثم نظر فجأة إلى البيت الكبير وراح يقول بتأثر وانفعال: «لماذا كان غضبك كالنار تحرق بلا رحمة؟ لماذا كانت كبرياؤك أحب إليك من لحمك ودمك؟ وكيف تنعم بالحياة الرغيدة وأنت تعلم أننا نُداس بالأقدام كالحشرات؟ والعفو واللين والتسامح ما شأنها فى بيتك الكبير أيها الجبار!». ورغم هذه الثورة الجامحة على ساكن البيت الكبير سرعان ما ثاب «أدهم» إلى نفسه ورشده وأخذ يتذكر خطيئته ويقر بأن أباه عامله بالعدل، وأنه هو الذى قصر فى فهم حكمته حين اختاره -من بين إخوته- لإدارة الوقف، وحين قرر طرده من البيت الكبير.
مشهد «أدهم» وهو يسعى محزوناً مقهوراً خلف رزقه بعد طرده من جنته الأثيرة (البيت الكبير) لا يختلف عن الصورة التى رسمها «دى شابرول» -فى كتابه «وصف مصر»- للمصرى المنهك الذى يتوقف بقاؤه على قيد الحياة على عمله اليومى الدؤوب ولا يمنعه الإنهاك من مواصلة السعى بصبر كبير. والفلاح الذى يتحمّل النيران التى تصبها السماء الملتهبة لكى يبذر الأرض التى تمده بضرورات أسرته. ويستطرد «شابرول»، قائلاً: «سوف يدهش الأوروبى حين يرى السايس أو خادم الإصطبل أثناء تدريب المماليك العسكرية، وهو يجرى أمام حصان سيده، ويتابع حركاته لساعات طوال، دون أن تبدو عليه أقل علامات التبرم والضجر، فى الوقت الذى تلقى فيه الشمس الملتهبة على جسمه العارى شواظاً من رصاص».
وكما صبر «أدهم» نجيب محفوظ على العنت والشقاء الذى قابله وهو يعيش مع زوجته وذريته فى الخلاء عشماً فى العودة إلى البيت الكبير، أصبحت أسهل طريقة للسيطرة على عقل «أدهم المصرى» تتمثل فى مواساة نفسه المحرومة وجسده المنهك وعقله الساكن والمسكون بمعادلة القضاء والقدر بأمنية العودة إلى جنته المحببة. إن هذا هو المدخل الأكثر سهولة وإقناعاً وإشباعاً لحلم الحياة الرغدة التى ينعم فيها الإنسان دون شقاء أو تعب. وهو الحلم المقدس لأدهم المصرى.. الحلم الذى يحرّضه على الصبر ويحثه على المواصلة.
مشكلة «أدهم» أن أحداً لا يريد أن يعلمه أن الجنة تُشاد على الأرض إذا أحسن استغلالها واستعمارها، وأن خلق الجنة على هذا الكوكب، هو الطريق إلى جنة المأوى، إنه الشرط المقدس لتحقيق معنى «الخلافة على الأرض»، وهو أيضاً المقدمة الأساسية لتحقيق الحلم المقدس بالخلود إلى الراحة فى الجنة.