بقلم: د. محمود خليل
فى فرنسا، يطالبون بهدم التماثيل التى تجسد رموزاً تاريخية كان لها دور فى غزو المستعمرات الأفريقية وحمل أهلها على العبودية. وفى الولايات المتحدة الأمريكية أصدر «ترامب» قانوناً يمنع المس بالتماثيل التاريخية بعد قيام المتظاهرين بهدم تماثيل بعض الرموز التاريخية التى كانت تجلب العبيد من أفريقيا وتتاجر بها فى الأرض الأمريكية البكر، فى سياق الاحتجاج على مقتل جورج فلويد. وفى بلادنا تجد مطالبات لا تنتهى بإزالة تماثيل لرموز ارتبطت بفترة الاستعمار، مثل تمثال ديليسبس، مهندس إنشاء قناة السويس، وينادى البعض بتغيير اسم شارع السلطان سليم الأول، الذى قاد الاحتلال العثمانى لمصر عام 1517، ناهيك عن الجدل الذى أثير على هامش الحديث عن أن الأتراك احتلوا القسطنطينية عام 1453، وأزالوا كنيسة آيا صوفيا وبنوا مسجداً محلها.
لقد أبى أصحاب نظرية «التفكير الفيسبوكى» إلا أن ينصبوا «عركة» كبرى مع التاريخ تستهدف محو آثاره فى الواقع. والتفكير الفيسبوكى هو التفكير الارتجالى العشوائى الذى يهتم بالشكل أكثر من الموضوع، وما أكثر ما يسقط أفراده فى فخ التناقض، والتفاعل السطحى مع الموضوعات الجادة، بغرض جلب الشير واللايك وخلافه، والشير واللايك يتحقق من خلال مجموعة الأصدقاء على الصفحة، بما يمتازون به من رغبة عارمة فى الاستقطاب، والانحياز إلى فريق. التفكير الفيسبوكى ببساطة هو التفكير الكروى الذى يعتبر أن السياسة والاقتصاد والتاريخ والثقافة والفن «كورة»، وأن المشارك فى مناقشة أى موضوع لا بد أن يتفاعل معه بروح «الأهلاوى» أو «الزملكاوى».
التاريخ يحكمه سياق. العبودية، على سبيل المثال، مثلت جزءاً من تاريخ البشر. ففى الوقت الذى كان يخطف فيه الأمريكيون والأوروبيون البشر فى أفريقيا وآسيا، كان العرب يفعلون الفعلة ذاتها.
الغرب والشرق كانا متفقين فى ذلك الحين على أن «العبودية» جزء من الحياة، وأنها قدر صنف معين من البشر، كما أن الحرية قدر صنف آخر. هكذا كان يفكر الجميع، وكذلك كان منطق العصر. وبعد الحرب الأهلية الأمريكية، بدأ التاريخ يدخل حقبة جديدة، فتصاعدت الدعوات لإلغاء العبودية فى الولايات المتحدة وأوروبا، وصدرت القوانين التى تعترف بحرية السود وحقوقهم فى الحياة تماماً مثل البيض، بعد زمان ترسخ فيه لدى أصحاب البشرة السمراء أنفسهم أن «الأبيض لا يموت» وأنه من عجينة أخرى غير عجينة البشر.
الأمر نفسه انطبق على دولة مثل مصر، فقد كان العبيد والرقيق جزءاً لا يتجزأ من حياة البيوت الثرية فى مصر خلال القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين. فالعبيد للعمل والخدمة والجوارى الحسان للتسرّى. وكان الخديو إسماعيل أول حاكم يحارب ظاهرة الرق فى مصر بشك جاد، وقطع خطوات فى هذا الاتجاه، لكنه لم يستطع أن يقضى على الظاهرة، خلال فترة حكمه، لأنه كان هو نفسه يملك مئات الجوارى فى قصره، فظلت أسواق النخاسة تنصب فى القاهرة والاسكندرية وطنطا حتى عام 1926، حينما صدر قرار رسمى بإلغاء الرق.
والحديث عن هدم تماثيل أو تغيير أسماء شوارع لا يشكل أكثر من رغبة ساذجة للثأر من فترات تاريخية كانت لها سياقاتها، وقد تركناها إلى سياقات وظروف أخرى جديدة، أصبحنا ننظر معها إلى التاريخ فى حدود سياقاته ليس أكثر.
حقيقة، لست أدرى ما الفارق بين جماعة «طالبان»، التى أقدمت ذات يوم على تفجير تمثال بوذا الأثرى، لارتباطه بحقبة عبد فيها الأفغان بوذا، وبين من ينهجون النهج نفسه فى اللحظة المعاشة.. «إنتوا كلكو طالبان ولا إيه؟».