توقيت القاهرة المحلي 10:38:32 آخر تحديث
  مصر اليوم -

خناقة مع التاريخ

  مصر اليوم -

خناقة مع التاريخ

بقلم: د. محمود خليل

فى فرنسا، يطالبون بهدم التماثيل التى تجسد رموزاً تاريخية كان لها دور فى غزو المستعمرات الأفريقية وحمل أهلها على العبودية. وفى الولايات المتحدة الأمريكية أصدر «ترامب» قانوناً يمنع المس بالتماثيل التاريخية بعد قيام المتظاهرين بهدم تماثيل بعض الرموز التاريخية التى كانت تجلب العبيد من أفريقيا وتتاجر بها فى الأرض الأمريكية البكر، فى سياق الاحتجاج على مقتل جورج فلويد. وفى بلادنا تجد مطالبات لا تنتهى بإزالة تماثيل لرموز ارتبطت بفترة الاستعمار، مثل تمثال ديليسبس، مهندس إنشاء قناة السويس، وينادى البعض بتغيير اسم شارع السلطان سليم الأول، الذى قاد الاحتلال العثمانى لمصر عام 1517، ناهيك عن الجدل الذى أثير على هامش الحديث عن أن الأتراك احتلوا القسطنطينية عام 1453، وأزالوا كنيسة آيا صوفيا وبنوا مسجداً محلها.

لقد أبى أصحاب نظرية «التفكير الفيسبوكى» إلا أن ينصبوا «عركة» كبرى مع التاريخ تستهدف محو آثاره فى الواقع. والتفكير الفيسبوكى هو التفكير الارتجالى العشوائى الذى يهتم بالشكل أكثر من الموضوع، وما أكثر ما يسقط أفراده فى فخ التناقض، والتفاعل السطحى مع الموضوعات الجادة، بغرض جلب الشير واللايك وخلافه، والشير واللايك يتحقق من خلال مجموعة الأصدقاء على الصفحة، بما يمتازون به من رغبة عارمة فى الاستقطاب، والانحياز إلى فريق. التفكير الفيسبوكى ببساطة هو التفكير الكروى الذى يعتبر أن السياسة والاقتصاد والتاريخ والثقافة والفن «كورة»، وأن المشارك فى مناقشة أى موضوع لا بد أن يتفاعل معه بروح «الأهلاوى» أو «الزملكاوى».

التاريخ يحكمه سياق. العبودية، على سبيل المثال، مثلت جزءاً من تاريخ البشر. ففى الوقت الذى كان يخطف فيه الأمريكيون والأوروبيون البشر فى أفريقيا وآسيا، كان العرب يفعلون الفعلة ذاتها.

الغرب والشرق كانا متفقين فى ذلك الحين على أن «العبودية» جزء من الحياة، وأنها قدر صنف معين من البشر، كما أن الحرية قدر صنف آخر. هكذا كان يفكر الجميع، وكذلك كان منطق العصر. وبعد الحرب الأهلية الأمريكية، بدأ التاريخ يدخل حقبة جديدة، فتصاعدت الدعوات لإلغاء العبودية فى الولايات المتحدة وأوروبا، وصدرت القوانين التى تعترف بحرية السود وحقوقهم فى الحياة تماماً مثل البيض، بعد زمان ترسخ فيه لدى أصحاب البشرة السمراء أنفسهم أن «الأبيض لا يموت» وأنه من عجينة أخرى غير عجينة البشر.

الأمر نفسه انطبق على دولة مثل مصر، فقد كان العبيد والرقيق جزءاً لا يتجزأ من حياة البيوت الثرية فى مصر خلال القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن العشرين. فالعبيد للعمل والخدمة والجوارى الحسان للتسرّى. وكان الخديو إسماعيل أول حاكم يحارب ظاهرة الرق فى مصر بشك جاد، وقطع خطوات فى هذا الاتجاه، لكنه لم يستطع أن يقضى على الظاهرة، خلال فترة حكمه، لأنه كان هو نفسه يملك مئات الجوارى فى قصره، فظلت أسواق النخاسة تنصب فى القاهرة والاسكندرية وطنطا حتى عام 1926، حينما صدر قرار رسمى بإلغاء الرق.

والحديث عن هدم تماثيل أو تغيير أسماء شوارع لا يشكل أكثر من رغبة ساذجة للثأر من فترات تاريخية كانت لها سياقاتها، وقد تركناها إلى سياقات وظروف أخرى جديدة، أصبحنا ننظر معها إلى التاريخ فى حدود سياقاته ليس أكثر.

حقيقة، لست أدرى ما الفارق بين جماعة «طالبان»، التى أقدمت ذات يوم على تفجير تمثال بوذا الأثرى، لارتباطه بحقبة عبد فيها الأفغان بوذا، وبين من ينهجون النهج نفسه فى اللحظة المعاشة.. «إنتوا كلكو طالبان ولا إيه؟». 

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

خناقة مع التاريخ خناقة مع التاريخ



GMT 23:29 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحو قانون متوازن للأسرة.. بيت الطاعة

GMT 23:27 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

نحن عشاق «الكراكيب»

GMT 23:25 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

التوت و«البنكنوت»

GMT 20:38 2022 الإثنين ,12 أيلول / سبتمبر

الصفقة مع ايران تأجلت... أو صارت مستحيلة

GMT 07:51 2021 السبت ,11 أيلول / سبتمبر

الملالي في أفغانستان: المخاطر والتحديات

إطلالات هند صبري مصدر إلهام للمرأة العصرية الأنيقة

القاهرة ـ مصر اليوم

GMT 00:26 2021 الأربعاء ,24 تشرين الثاني / نوفمبر

كريستيانو رونالدو يضيف لسجله أرقاماً قياسية جديدة

GMT 10:18 2020 الجمعة ,26 حزيران / يونيو

شوربة الخضار بالشوفان

GMT 08:15 2020 الثلاثاء ,09 حزيران / يونيو

فياريال يستعين بصور المشجعين في الدوري الإسباني

GMT 09:19 2020 الجمعة ,24 إبريل / نيسان

العالمي محمد صلاح ينظم زينة رمضان في منزله

GMT 09:06 2020 الأربعاء ,22 إبريل / نيسان

تعرف علي مواعيد تشغيل المترو فى رمضان
 
Egypt-today

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

egypttoday egypttoday egypttoday egypttoday
Egypttoday Egypttoday Egypttoday
Egypttoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
Egypt, Lebanan, Lebanon