قبل حرب اليمن كان العلم يحتل درجة متقدمة على سلم القيم الأدهمية. وكان صاحبه يحتل فى الأغلب موقع الصدارة فى العديد من المواقع.
كانت أغلب العوائل الأدهمية -أغنياء وفقراء- حريصة كل الحرص على أن يكون فى الأسرة شخص أو أكثر يتمتع بوصف عالم أزهر، أو طبيب، أو محامٍ، أو معلم.
كان العلم والمعرفة رافدَين أساسيين من روافد الوجاهة الاجتماعية.
وكلما اقترن تحصيل العلم بتجربة تحدٍّ حاز صاحبه مراتب أعلى ونظرة أكثر سمواً فى أعين الأداهم.
يمكنك أن تستدل على ذلك من نظرتهم لعميد الأدب العربى طه حسين.
الطفل الكفيف الذى وفد إلى القاهرة من إحدى قرى صعيد مصر وخاض تجربة إنسانية عصيبة تحدَّى فيها ظروف مرضه، وقطع الأميال من أجل تحصيل العلم فى الأزهر، ثم الجامعة المصرية، ثم امتطى البحر مسافراً إلى أوروبا بحثاً عن المزيد من المعارف.
حظيت تجربة «العميد» بطوفان من الإعجاب من جانب كبار وصغار الأداهم.
ولو أنك قرأت كتاب «الأيام» فسوف تلاحظ مبلغ حرص أبيه الموظف البسيط بمصنع السكر على تعليم ابنه، بل إن أحداث السيرة الذاتية تشهد أن الرجل لم يكن حريصاً على تعليم طه حسين وحده بل كل أبنائه، فشقيق طه حسين «محمود» كان طالباً بالمدرسة الطبية عندما وافته المنية بعد اجتياح وباء الكوليرا للقرية التى تعيش بها الأسرة، وكان له شقيق آخر عالم بالأزهر الشريف.
العوائل الأدهمية الغنية كانت حريصة كل الحرص على تعليم أبنائها. والعديد من أبناء هذه الأسر كانوا من المحامين والمهندسين والأطباء، ويجيدون أكثر من لغة، وبالإضافة إلى ذلك يملكون ناصية اللغة العربية بشكل لا تخطئه أذن.
الملك فاروق نفسه كان يجيد عدة لغات أجنيه، والتسجيلات الصوتية القليلة المتناثرة هنا وهناك تدل على امتلاكه قدراً كبيراً من الرصانة فى الحديث بالعربية، وكأنه تربى فى مجمع اللغة العربية. فى كل الأحوال لم يكن الثراء عذراً عن الجهل، ولم يكن الفقر عائقاً أمام من يريد الاجتهاد فى تحصيل العلم.
نعم كان التعليم الجامعى بمصروفات، لكن الفرص كانت متاحة للمجتهدين للإعفاء منها، كما أن التعليم ما قبل الجامعى كان كله مجانياً قبل قيام ثورة يوليو 1952.
الضباط الأحرار أنفسهم استفادوا من الحالة الداعمة للتعليم والمثمّنة لقيمة المعرفة قبل الثورة.
صدى ذلك يظهر بوضوح فى مؤشر الأداء اللغوى (العربى والأجنبى) للعديد من الضباط الأحرار، مثل جمال عبدالناصر وعبدالحكيم عامر وأنور السادات وغيرهم.
نوع من البرجلة أصاب منظومة القيم الأدهمية بعد بضعة أعوام من قيام الثورة، حيث صعدت قيمة المال والاستهلاك وأصبحت تتقدم خطوات عديدة على قيمة العلم والمعرفة.
وكان السرُّ فى ذلك أمرين، الأول أن الطلب الرسمى على العلم لم يعد كبيراً، بل تفوق عليه الطلب على قيم النفاق والمداهنة والمراوغة، لأن الواقع ببساطة كان يبحث عن «أرباب الثقة» وليس «أصحاب الكفاءة»، والثانى أن الطلب الشعبى على العلم والمعرفة تراجع بصورة ملحوظة، حين أصبحت أكثر الأسر معنية بالشهادة أكثر من العلم، وبدأت ثقافة «الغش» تضرب العملية التعليمية برمتها بعد أن أصبحت الشهادة الزائفة -المقرونة بالنفاق والواسطة- أحد المفاتيح التى تساعد صاحبها على الولوج إلى عالم المناصب والنفوذ، وبالتالى المال الذى يساعد على إشباع النهم الاستهلاكى الذى ظهر على استحياء بين قطاع من الأداهم المصريين خلال فترة الستينات، ثم ضرب الجميع خلال فترة السبعينات.