بقلم: د. محمود خليل
فى الصراعات السياسية أحياناً ما يظهر أطراف ينطبق عليها قول القائل: «قلوبهم معك وسيوفهم عليك». المشهد التاريخى الأبرز الذى ترددت فيه هذه العبارة اقترن بمسير الإمام الحسين إلى الكوفة، بعد أن دعاه أهلها إلى المجىء إليهم لمبايعته خليفة للمسلمين بدلاً من «يزيد»، الذى اعتلى الخلافة بعد أبيه معاوية، والسيف على رقاب العباد. قابله فى الطريق الشاعر العربى الشهير «الفرزدق» فسأله عن وجهته، فأخبره بأنه سائر إلى الكوفة حيث بايعه أهلها ودعوه إليها لتصبح مركزاً يستطيع أن يناوئ منه بنى أمية فى الشام، فما كان من «الفرزدق» إلا أن نصحه بالعودة من حيث جاء، وقال له يصف أهل الكوفة: «إن هؤلاء قوم قلوبهم معك وسيوفهم عليك». لم يستمع الحسين، رضى الله عنه، إلى النصيحة وسار إلى حيث أراد ليسقط شهيداً فى كربلاء.
فى دنيا الصراع لا بد أن يكون الطرف الساعى إلى تحقيق هدف معين واعياً بشكل كامل بالأطراف الأخرى التى يتعامل معها، ومواقفها المعلنة والأخرى التحتية، ومن المهم ألا ينخدع بالتصريحات المؤيدة والكلمات المعسولة، ويرتكن على ذلك. فالرهان دائماً على المواقف وليس الوعود الكلامية، خصوصاً عندما ينخرط الشخص فى صراع حول قضية كبرى تمس حاضره ومستقبله. لقد صدّق الإمام الحسين الكلمات الكبيرة التى احتشدت داخل الرسائل التى وصلته من الكوفة تشجعه وتحثه على التحرك إليها ليصطف أهلها من خلفه فى مواجهة يزيد بن معاوية. وعندما نصحه «الفرزدق» بعدم السير فى هذا الطريق كان يعلم أن ميزان القوى يميل لصالح «يزيد»، وأن «الخوف من القوى» يحرك الناس أكثر مما تحركهم كلمات الإيمان، وأن المصالح تحدد وجهتهم أكثر من المبادئ. وذلك هو ما حدث بالفعل. فعندما وصل «الحسين» إلى كربلاء وجد من دعوه إلى المجىء مختبئين فى بيوتهم، خائفين على أنفسهم من سيوف بنى أمية، أو باعوا الرجل مقابل مجموعة من المصالح الصغيرة التى دفع بها القصر الأموى إليهم.
من ينخرط فى صراع تفاوضى عليه أن يجيد علم «الحسابات السياسية» التى لا تعرف ثوابت، ولا ترتكن إلى مجموعة من العبارات المتميعة حول العلاقات التاريخية والجغرافية وخلافه. لغة الحساب لا تعرف إلا المعادلات وأن «واحد زائد واحد يساوى اثنين». ثمة أطراف فى أى لعبة صراع تفضل اللعب مع الصغار، وتلقى بثقلها معهم، وقد تعلن عن إخلاصها للطرف الكبير فى الظاهر، وعندما تصل المواقف إلى منصة الحسم تجد سيوف الصغار قد خرجت وأشهرت وتكاثرت على الكبير.
قُتل «الحسين» فى كربلاء، ورفض قاتلوه أن يمنحوه شربة ماء، وعاجلوه بالسيف حتى حلقت روحه الطاهرة إلى بارئها. لم ينصره من كانوا بالأمس يطنطنون بمحبته وأفضليته، ولم ينفعه فيما بعد اللطميات والبكائيات التى ينخرط فيها أبناء وأحفاد من خذلوه حتى اليوم. قد تسمع هذه اللطميات أو تقرأ تلك البكائيات فى بطون الكتب، لكن يبقى أن الواقع لا يعرف سوى لغة القوة وأفعالها ونواتجها، لا يعرف إلا الثقة فى النفس وفى الأدوات التى تملكها فى مواجهة من يريد تهديدها.