بقلم: د. محمود خليل
كان على بن أبى طالب كثير النصح لعثمان بن عفان بالاستماع إلى الآخر، وتأمل وجهة النظر المخالفة، خصوصاً خلال الفترة التى شهدت تمرداً من جانب جماعات من مصر والبصرة والكوفة على حكمه، لكن الأمر اختلف عندما تولى خلافة المسلمين بعد استشهاد «عثمان». كان على -رضى الله عنه- أكثر ميلاً إلى تحكيم رأيه، وكانت الشورى من وجهة نظره تعنى فقط إفساح المجال للقريبين منه كى يقدموا وجهة نظرهم، التى يكتفى بالاستماع إليها ولا يأخذ بها فى الأغلب.
كان المغيرة بن شعبة واحداً من أهل شورى على بن أبى طالب، ومن الجماعة التى تنصح له. فى موقف جمع المغيرة وعلىّ وقع الحوار الآتى الذى حكاه «ابن عباس». «قال ابن عباس: أتيت علياً بعد قتل عثمان عند عودتى من مكة فوجدت المغيرة بن شعبة مستخلياً به، فخرج من عنده، فقلت له: ما قال لك هذا؟ فقال: قال لى قبل مرّته هذه: إن لك حق الطاعة والنصيحة، وأنت بقية الناس، وإن الرأى اليوم تحرز به ما فى غد، وإن الضياع اليوم يضيع به ما فى غد، أقرر معاوية وابن عامر وعمال عثمان على أعمالهم حتى تأتيك بيعتهم ويسكن الناس، ثم اعزل من شئت، فأبيت عليه ذلك، وقلت: لا أداهن فى دينى ولا أعطى الدنية فى أمرى. قال: فإن كنت أبيتَ، فانزع مَن شئت واترك معاوية، فإن فى معاوية جرأة، وهو فى أهل الشام يُستمع منه، ولك حجة فى إثباته، وكان عمر بن الخطاب قد ولاه الشام. فقلت: لا والله لا أستعمل معاوية يومين! ثم انصرف من عندى وأنا أعرف فيه أنه يود أنى مخطئ، ثم عاد إلىّ فقال: إنى أشرت عليك أول مرة بالذى أشرت وخالفتنى فيه، ثم رأيت بعد ذلك أن تصنع الذى رأيت فتعزلهم وتستعين بمن تثق به، فقد كفى الله، وهم أهون شوكة مما كان. قال ابن عباس: فقلت لعلى: أما المرة الأولى فقد نصحك، وأما المرة الثانية فقد غشك».
على بن أبى طالب كان يسمع، لكن الرأى كان له فى النهاية. وهو أمر لا يرتبط بشخصه، قدر ما ارتبط بظرفه. فالظرف التاريخى الذى عاشه علىّ وغيره من صحابة النبى لم يكن يجعل للشورى مكاناً أو قيمة. بل قل إن فكرة «أهل الشورى» التى ابتكرها عمر بن الخطاب تحولت إلى بوابة كبرى دخلت منها الفتنة إلى مجتمع الصحابة، فمن لم يرض بنتائجها ظل ساخطاً على حكم عثمان، حتى واتته الفرصة، خلال فترة التمرد على عثمان. المغيرة بن شعبة نصح علياً فى الحوار السابق بأن يتعامل تعاملاً سياسياً مع أمر واقع، لكن علىّ حوّل ما هو سياسة إلى دين، فاعتبر الإبقاء على معاوية -خصمه الأهم- نوعاً من قبول الدنية فى الدين والدنيا، رغم أن معاوية سبق وولّاه عمر بن الخطاب، وعندما رأى منه المغيرة هذا الإصرار تأكد أنه ليس برجل شورى، وخشية أن يغضب عليه بادر فى اليوم الثانى إلى التراجع عن رأيه والتأكيد على صحة وجهة نظر الخليفة. ذلك الذى فهمه ابن عباس وتستطيع أن تستخلصه من رده على سؤال «على» حول موضع النصيحة والغش فيما قاله المغيرة: «قال: ولِم نصحنى؟ قلت: لأن معاوية وأصحابه أهل دنيا، فمتى ثبتّهم لا يبالون من ولى هذا الأمر، ومتى تعزلهم يقولون: أخذ هذا الأمر بغير شورى وهو قتل صاحبنا، ويؤلبون عليك، فتنتفض عليك الشام وأهل العراق، مع إنى لا آمن طلحة والزبير أن يكرا عليك، وأنا أشير عليك أن تثبت معاوية، فإن بايع لك فعلى أن أقلعه من منزله، وقال علىّ: والله لا أعطيه إلا السيف!». كما رفض على بن أبى طالب نصيحة المغيرة، رفض نصيحة «ابن عباس» وأصر على رأيه بمواجهة معاوية ولو بالسيف!.