بقلم: د. محمود خليل
زمان كنا نردّد أن الأهلى والزمالك هما أكبر حزبين فى مصر. فتحت اسم الناديين يحتشد ملايين المتحيزين إلى حد التعصب، والمستعدين لأن يفعلوا أى شىء من أجل أن ينتصر ناديهم، وكذلك الجاهزون بالتبريرات المعلبة لتفسير هزائمه أو التهوين من إخفاقاته. فى كل بلاد الدنيا تبدو ظاهرة التحيز الكروى طبيعية، لكن المسألة تأخذ مساراً مختلفاً عندما يتحول التعصّب إلى الشتم، ثم الضرب، ثم الحرق، ثم القتل، هنالك تصبح المسألة غير طبيعية. التعصب الكروى لا يعبر عن ظاهرة طارئة فى حياة المصريين، لكن تحول ملاعب الكرة إلى ساحات معارك، واعتماد الجمهور للعنف كوسيلة للتعبير عن التحيز للنادى طارئان لا يظهران إلا فى ظروف وسياقات معينة، أبرزها سياق جفاف السياسة وسياق الإحباط.
ركود سوق السياسة، سواء بسبب إغلاق المجال العام أو عزوف الناس عن المشاركة لأى سبب كان، يؤدى إلى شيوع ظواهر التعصّب والعنف فى التعبير عن التحيّز للنادى والبلطجة فى الملاعب والشوارع. الكلام الذى كان يتردّد منذ زمن عن أن الأهلى والزمالك يمثلان أكبر حزبين فى مصر كان مرده حالة البوار والتصحر التى أصابت ملاعب السياسة. هذا الكلام كان يقال فى ظل وجود أحزاب عديدة، لكنها كانت عاجزة أشد العجز عن حشد الناس وراءها وخلق قاعدة جماهيرية لها فى الشارع. يستطيع المواطن، وكذا الناقد والمحلل الرياضى أن يتحدّث بـ«الفم المليان» ويقول رأيه بصراحة ويتهم ويشكك كما شاء وشاء له الهوى فى لاعب أو فريق، وبإمكان المتكلمين فى «الكورة» أن يستهلكوا الساعات الطوال فى «الكلام والحديت»، دون أن يمنعهم أحد أو يصادر على رأيهم أياً كان، لكن التجارب التى عاشتها مصر خلال العقود الأخيرة تقول إن أمر الحديث فى السياسة مختلف. فالمواطن يحفظ منذ الستينات أن «الحيطان لها آذان».
سياقات الإحباط تؤدى هى الأخرى إلى انتعاش ظاهرة التعصب الكروى، وتساعد على سيطرة التعابير العنيفة عليه، يستوى فى ذلك العنف اللفظى مع العنف السلوكى. فى أوائل السبعينات من القرن الماضى، عاش المصريون واحدة من أشد حالات الإحباط قسوة فى تاريخهم -عقب نكسة 1967- كانت لها تداعيات على الظاهرة التى نتحدث عنها. أتذكر أن مباراة أقيمت بين الأهلى والزمالك فى ذلك الحين، وبعد مرور عدة دقائق من الشوط الأول، احتسب الحكم ضربة جزاء على الأهلى، فثار لاعبوه وهاج الجمهور وماج، وتم احتواء الموقف، خصوصاً بعد أن طمأن حارس مرمى الأهلى «مروان كنفانى» الجمهور بأنه سوف يتصدى للضربة، وأن مرماه لن يُصاب بهدف. تقدم اللاعب الشاب -وقتها- فاروق جعفر، وسدد الضربة فى المرمى. بعدها انهمر جمهور الأهلى، ومن ورائه جمهور الزمالك على الملعب مثل السيل الجارف، ونشبت معركة حامية تشارك فيها اللاعبون والجمهور والحكام، وأصيب البعض إصابات بالغة. بعدها تم وقف الدورى فى مصر إلى أجل غير مسمى.
التعصّب الكروى الذى ينقلب إلى عنف لا يفنى ولا يُستحدث من عدم. فحالة الانفلات العصبى المكتومة فى دنيا الاقتصاد والمعايش وخلافه، تجد متنفساً مأموناً لها فى ملاعب الكرة.