بقلم: د. محمود خليل
فى الوقت الذى يشتعل فيه الشارع الأمريكى بالاحتجاجات على العنصرية التى تمارس ضد السود، وتتنقل المظاهرات الداعمة للاحتجاجات فى أوروبا من دولة إلى أخرى، وتحتشد مواقع السوشيال ميديا بدفاع أبيض عن السود، يتفاعل صراع من نوع آخر ما بين كل من «ترامب» ومنافسه المحتمل فى الانتخابات الرئاسية المقبلة (نوفمبر 2020) جو بايدن. الاثنان يمارسان سياسة الصندوق، فكل كلمة تخرج على لسان هذا أو ذاك تتردد على اللسان فى حين تكون العين على الصندوق والأصوات التى يمكن استقطابها لدعم موقف كل منهما فى الانتخابات المقبلة. الحمار الديمقراطى مثله مثل الفيل الجمهورى لا يفكر إلا فى الصندوق. والحمار -كما تعلم- هو رمز الحزب الديمقراطى، أما الفيل فرمز الحزب الجمهورى.
مع تصاعد الاحتجاجات وانتقالها من مدينة لأخرى داخل الولايات المتحدة خرج «ترامب» واصفاً ما يحدث فى الشارع بأنه نوع من الإرهاب الداخلى، وأمر جنوده بقمع الاحتجاجات، واتهم أعضاء الحركة الأناركية وحركة أنتيفا بالوقوف وراء عمليات السلب والنهب التى شهدتها بعض المدن الأمريكية. ولعلك تذكر أننى شرحت لك قبل ذلك أن ما يحدث حالياً فى أمريكا ليس مرده مقتل «جورج فلويد»، فهو ليس أول أسود يموت برصاصات شرطية، بل له أسباب أعمق ترتبط باضطراب المعادلة التى ظل يباهى بها «ترامب» طيلة السنوات الماضية، وهى معادلة الاقتصاد، ونجاحه فى محاصرة البطالة، بعد ما حصد مئات المليارات من أموال الخليج. فيروس كورونا ضرب معادلة الفيل الجمهورى فى مقتل، وهز الأرض من تحته قبل بضعة أشهر من الانتخابات. لم يجد «ترامب» أمامه سوى استدعاء شيطان الإرهاب وتحضير عفريته ومغازلة ناخبيه به حتى يثير بداخلهم نوازع الخوف ويعيدهم مرة أخرى إلى «حظيرة الصندوق». ليس ذلك وفقط، بادر «ترامب» أيضاً إلى حمل الإنجيل فى يده ليغازل طبقة المتدينين الأمريكيين، واليمين العنصرى المتطرف، فى محاولة تجارية بحتة لرأب الصدع الذى حدث فى حائطه الانتخابى.
لم يكن أداء «بايدن» الذى يعبر عن الحزب الديمقراطى، ورمزه الحمار، أقل ولاء للصندوق من «ترامب»، فقد انخرط فى بكائية على الأوضاع التى وصل إليها الشارع الأمريكى. وفى مشهد تمثيلى بارع خرج يحدث الأمريكيين برسالة «كلنا مجرمون وكلنا ضحايا» ويعدهم بعالم أفضل فى قادم الأيام، بشرط أن يمنحوه أصواتهم فى الانتخابات، لكونه رجل المبادئ، الماسك والمتمسك بالقيم الأمريكية التى أهال عليها منافسه التراب!. الكلام حلو ولطيف ما دمت لم تصل إلى الكرسى بعد، والوعود أرخص أنواع الدعاية التى يمكن اللجوء إليها فى المنافسات الانتخابية.
هموم الشارع الأمريكى والألم الواضح الذى يشعر به الأمريكان بسبب العنصرية وما تنذر به من مآسٍ يمكن أن تلحق بهم، بعيدة كل البعد عن تفكير كل من الفيل الجمهورى والحمار الديمقراطى. إن أكثر ما كشفته المشاهد الحالية فى الولايات المتحدة هو حالة الهشاشة التى ضربت المجتمع الأمريكى. وربما كانت الاحتجاجات الحالية معبرة عن وعى فطرى من جانب المواطن الأمريكى البسيط بضرورة مواجهة هذه الحالة التى أصبحت تهدد حاضرهم ومستقبلهم.. بسبب وقوعهم فى يد مجموعة من الهواة.