بقلم: د. محمود خليل
فكرة حمل السلاح كانت حاضرة فى ذهن حسن البنا منذ أن اختمرت فى ذهنه فكرة تأسيس الإخوان، لكنه كان من الخبث بحيث أجّل طرحها إلى المرحلة الأخيرة من بناء الجماعة. أسّس «البنا» ما يُسمى بفريق الرحلات أو «الجوالة». ويعترف محمود عبدالحليم فى كتابه «أحداث صنعت التاريخ» بأن «فرق الرحلات أو الجوالة لم تكن سوى فريق عسكرى هدفه تحقيق فكرة الجهاد فى الإسلام، وهى الصورة التى رسمها «البنا» فى ذهنه لفرق الجوالة منذ قام بدعوته فى الإسماعيلية».
هكذا يعترف «عبدالحليم» بأن فكرة «عسكرة الجماعة» كانت مختمرة فى ذهن «البنا» منذ كان فى الإسماعيلية، أى قبل نزوحه إلى القاهرة، لكنه كان يتفهّم سمات الشخصية الأدهمية التى تؤثر السلامة والاستقرار على العنف والمواجهة، خصوصاً أن أداهم العاصمة لم تتأصل فى نفوسهم العادات المتأصلة لدى أداهم الريف، وعلى رأسها عادة الثأر، كما أنهم كانوا أكثر وعياً بمفهوم الدولة الذى بدأ فى التشكّل منذ عصر محمد على، ويعلمون أن الفكرة الشائعة بسيطرة بعض العصابات على الريف أساسها معادلة غياب أو حضور الدولة، فى حين أن المسألة مختلفة فى القاهرة التى تحضر فيها الدولة بكامل أدواتها.
كما أن الذاكرة الأدهمية كانت تستوعب جيداً أن واحدة من أخطر المحاولات للسيطرة على جزء من صعيد مصر باءت بالفشل، وهى محاولة شيخ العرب همام، بعد أن تمكن مماليك العاصمة من كسر شوكتها أيام دولة على بك الكبير.
انخرط الكثير من شباب الأداهم فى فرق الجوالة، وأصبح لهم زى موحد أقرب إلى الزى العسكرى، ثم تحول مسمى فرق الجوالة إلى «الكتائب» وهو مصطلح من مصطلحات الجندية، وأصبح لـ«الكتائب» نشيد ألفه عبدالحكيم عابدين صهر حسن البنا، والملقب بـ«راسبوتين الجماعة».
يتصدّر النشيد بيتان يقولان: «هو الحق يحشد أبناءه.. ويعتد للموقف الفاصل.. فصفوا الكتائب آساده.. ودكوا به دولة الباطل». والمعانى التى يحملها البيتان ليست بحاجة إلى تأويل. فنداءات العنف فيها صارخة، والدعوة إلى دك دولة الباطل -التى هى أى دولة غير دولة الإخوان بالبداهة- واضحة.
يقول محمود عبدالحليم: «أصبحت الجموع الحاشدة لفرق الجوالة بطوابيرها المنظمة، وطبولها المثيرة، وهتافاتها المزلزلة، وعسكريتها شبه المحترفة، قادرة على دعم شعور شعبى بأن الحق له قوة تحميه فتطمئن قلوب تحب الحق، لكنها كانت خائفة، وتهتز فرقاً -أى خوفاً- قلوب كانت سادرة فى الباطل، فكانت تجاهر بباطلها اعتماداً على أن الطريق أمامها سهل مفتوح، فلما رأت بعينها قوة الحق انكمشت بباطلها مستخفية مرتجفة».
ولا يخفى عليك ما تشتمل عليه ثنائية «الحق/ الباطل» من استدعاء لفكرة تقسيم الأداهم إلى فريقين، فريق الحق «الإخوانى بالطبع!»، وفريق الباطل من «غير الإخوان»، وهو تفكير تبدو فيه الصبغة «العثمانلية» للجماعة، وقد سبق أن حكيت لك عن مبادرة السلطان سليم شاه إلى دعم فكرة انقسام المصريين إلى فريقين خلال الفترة بعد استيلاء الأتراك على المحروسة عام 1517. وظنى أن الوصف الذى قدمه «عبدالحليم» لموقف المصريين من المسيرات وتنازعهم بين إحساس بالقوة التى تحمى الحق وإحساس بالخوف من القادم لا يخلو من دقة، فالأداهم بطبيعتهم يحبون الفرجة والمشاهدة، وقد فهموا من العروض شبه العسكرية لجوالة الإخوان أن ثمة قوة جديدة صاعدة تريد أن تسيطر على الحكم بالسلاح، وبالتالى فقد أدوا بتركيبتهم النفسية التى ورثوها عن أجدادهم من عصر موسى، عليه السلام (مع الفارق فى التشبيه بالطبع)، حين تزاحموا يوم الزينة لمشاهدة الصراع بين موسى وسحرة فرعون، ورأوا معجزات النبى، واستمتعوا بالمشهد، ثم عادوا إلى بيوتهم، ولا يذكر التاريخ أن أحداً منهم قد آمن برب هارون وموسى!