بقلم: د. محمود خليل
ليست تلك هى المرة الأولى التى نشاهد فيها إعلاناً عقارياً استفزازياً خلال شهر رمضان.. الناس بس هى اللى بتنسى.. عن إعلان أحد الكومباوندات وما أثاره من صخب وجدل على مواقع التواصل وداخل وسائل الإعلام، أتحدث.. إعلانات عديدة شبيهة شاهدها المصريون عبر رمضانات الأعوام الماضية تسوق لعقارات داخل كميونيتى أو كومبوند مغلق، تصف المساحات الخضراء التى تتوافر فيه، وملاعب الجولف، والشوارع المتسعة، والخدمات المتكاملة المتوافرة وغير ذلك. الإعلان الجديد مشاركة فى نفس المعزوفة. ولو أننا حللناه على المستوى المهنى -بعيداً عن المواقف الاجتماعية- فسنجد أنه إعلان عرف كيف يختار مجموعة المفاهيم التى يبلور حولها رسالته التى تستهدف نوعاً معيناً من الزبائن. الحديث عن الخصوصية والمساحات الخضراء والملاعب وتوافر مراكز الخدمة التى تغنيك عن الخروج للأغيار (من البشر) تلهب خيال شريحة لا بأس بها ممن يمتلكون القدرة الشرائية للسلعة، كما أن الحديث عن أن الحياة فى المكان تشبه الحياة فى بعض العواصم الأوروبية مثل لندن وغيرها يروق لشريحة من المصريين تملك القدرة على اقتناء وحدة سكنية أو فيلا أو قصر منيف فى هذا المكان. إنها ببساطة ثقافة شريحة اجتماعية معينة نجح الإعلان فى مغازلتها وتسويق السلعة لها وتهيئتها للشراء.
والسؤال: هل النماذج البشرية التى اعتمد عليها الإعلان بثقافتها وطريقة تفكيرها ولغتها غير موجودة فى الواقع؟. كلنا يعرف أنهم جزء من واقعنا، حتى ولو مثلوا شريحة ضئيلة من أبناء المحروسة. هم موجودون ويفكرون بالطريقة التى عبر عنها الإعلان. وأظن -وليس كل الظن إثم- أن أفراد هذه الشريحة من المصريين استغربوا ردود الفعل على طريقة تفكيرهم، تماماً مثلما تعجبت الشريحة -الأقل قدرة- من طريقة التفكير والأفكار التى حملها الإعلان. حقيقة ذكرها الإعلان عندما ألح على فكرة أن كل الناس فى المكان الذى يسوّق له «شبه بعض». ومؤكد أن سماتهم الثقافية (والثقافة إفراز لواقع اقتصادى واجتماعى) تختلف عن سمات غيرهم من الشرائح الاجتماعية للمصريين، لذلك أظن أن الاستغراب كان متبادلاً.
جزء من ثقافة «الرأسمالية الجديدة» يرتبط بفكرة الكومبوند أو المكان السكنى المغلق. ولست أتحدث هنا عن الكمبوندات التى تؤوى أفراد الطبقة الوسطى -فهى لا تزيد عن محاولة للتقليد- بل أشير إلى مدن كاملة التجهيز، وبأسعار عالية تختار زبائنها المتشابهين فى الثقافة والقدرة الاقتصادية والدائرة الاجتماعية. إنها مجتمع يوتوبيا الذى حكى عنه أحمد خالد توفيق فى روايته التى جاءت تحت العنوان نفسه «يوتوبيا». هذا النمط من التجمعات البشرية أصبح واقعاً منذ فترة ليست بالقصيرة. وهو آخذ فى النمو (الرأسى)، أى على مستوى «التميز الكيفى» بحيث لن يستطيع أحد أن يطاوله فى المستقبل، وخصوصاً الشرائح الغاضبة على الإعلان من أفراد الطبقة الوسطى. وقد كان من اللافت أن تكون هذه الشريحة هى الأكثر نقداً للإعلان وللثقافة والفكر الذى يحمله فى باطنه. فمنذ سنين لم يعد أفراد الطبقة الفقيرة يكترثون بهذه النوعية من الإعلانات، لأن جودة الحياة باتت فى نظرهم مفهوماً أسطورياً، مثل العنقاء والخل الوفى وأمنا الغولة.. الغضب من فكرة معينة فى إعلان أو مسلسل أو فيلم لن يغطى بحال على وجودها فى الواقع!.