بقلم: د. محمود خليل
لم يتخلّ «مبارك» عن الهامش الذى منحه سلفه «السادات» لجماعة الإخوان لكى تتحرك على الساحة، بل قننه وأفسح لها المجال للمشاركة فى الانتخابات البرلمانية بحسبة محسوبة، وكانت أغلب قيادات الجماعة طوال سنوات حكم «مبارك» على علاقة بمسئولين وبعض رموز الحزب الوطنى ورجال الأعمال الذين يعملون فى معية الدولة وفى ظلها. لم يكن قد مضى على حكم «مبارك» سوى بضع سنوات، حين قرر ترسيخ معادلة «استخدام الإسلاميين»، لتأمين نظام حكمه، فقد سمح للدولة بالتعامل مع طرف منهم، وهو الطرف الإخوانى، فأفسح له المجال، للمشاركة المدنية بحسبة محدّدة، أما الطرف الثانى الذى يقوم بعمليات إرهابية ويهدّد الأمن والأمان داخل «الأدهمية»، فقد استخدمه «مبارك» كفزاعة تضع «الأداهم» تحت التهديد وتستدعى من داخلهم حنينهم الدفين إلى الأمن والاستقرار، ورفضهم الصارم للاضطرابات الدموية.
لم يفرّق «مبارك» على المستوى النظرى بين الإخوان وغيرهم من الجماعات، لكنه عملياً كان يسمح للإخوان بالعمل فى الشوارع والمساجد والزوايا والنقابات. وحكاية «النقابات» تلك حكاية كبرى، فقد أفسحت السلطة الطريق واسعاً رحباً أمام كوادر الجماعة لتُسيطر على مجالس إدارة النقابات. وقد فسّر الكاتب الراحل «يوسف إدريس» الأمر بطبيعة العملية الانتخابية داخل النقابات، حيث لا يهتم أغلب الأعضاء بالمشاركة، فيتركون الساحة خالية أمام المدجنين والمنظمين من أعضاء جماعة الإخوان الأكثر التزاماً بالمشاركة بأوامر صادرة من التنظيم، ولأنهم وحدهم الذين يصوتون يصبح بإمكانهم التحكم فى النتائج. التفسير الذى قدّمه يوسف إدريس له وجاهته ولا شك، لكن يتساند معه ويسنده توجّه «دولة مبارك» وسماحها بتحرّك الفصيل الإخوانى داخل النقابات. فكل شىء كان يتم تحت سمعها وبصرها وبإذنها وموافقتها، ولو أرادت العكس لفعلت ولقدرت عليه. وقد لعبت مجالس النقابات الإخوانية بعد ذلك دوراً مهماً فى خدمة «مبارك»، حين أخذت تعمل معه فى التعبئة على جمع التبرعات وحشد المجاهدين لتحرير أفغانستان التى غزاها السوفييت عام 1979.
استقبل الكثير من أفراد النخبة الأدهمية وذراريهم «مبارك» بنوع من الاستخفاف، واستخدموا معه ما اعتادوا عليه من آليات للسخرية غطت جوانب عديدة من صوته وصورته، لكن الرجل كان يطوى بين جوانحه شخصية أعقد بكثير مما يظن متابعوه. وليس من المستبعد أنه كان يمتلك منذ اليوم الأول لدخوله قصر الحكم تصوراً واضح الخطوات لما ينبغى أن يفعله، ليمسك بزمام حكم الأدهمية لأطول فترة ممكنة. ويبدو أن «مبارك» كان يطمح إلى الجلوس على العرش مدة أطول من «عبدالناصر» (16 عاماً) و«السادات» (11 عاماً). وقد رتب أموره بما يخدم أهدافه بصورة تدعو إلى العجب، ولعب على تناقضات الأطراف المتصارعة من حوله بطريقة تستوجب التأمل. وليس أدل على ذلك من الطريقة التى أدار بها ملف الإسلاميين فجعلهم من حيث لا يدرون ولا يعلمون مجرد موظفين لديه، لينجح فى ما فشل فيه «السادات» من قبل، بسبب عدم إجادته للعبة القط والفأر التى كان يُتقنها «مبارك»، ويتسلى بها كجزء من غرامه بالتسلية.