بقلم: د. محمود خليل
قدم الرئيس الجديد للأدهمية «حسنى مبارك» نفسه فى صورة القيادة التى تحارب الفساد، وتأبى أن تلوث يدها بالحرام، وردَّد على مسامع «الأداهم» مقولة: «الكفن مالهوش جيوب»!. واتساقاً مع شعار «محاربة الفساد» تم فتح ملفات «عصمت السادات» (شقيق الرئيس أنور السادات). أُلقى القبض على «عصمت» عام 1982 وحقق معه المدعى العام الاشتراكى، وأثبت امتلاكه وأسرته لأموال ضخمة وعقارات وأراضٍ زراعية وأراضى بناء بطرق غير مشروعة، وقضت محكمة القيم بمصادرة أمواله وأموال أبنائه. وتم فتح ملف رشاد عثمان، إمبراطور الإسكندرية الذى بدأ حياته عاملاً بالميناء، ثم أصبحت ثروته بمئات الملايين، وقد حوكم أيضاً وقضت المحكمة بسجنه، وكذلك ملف توفيق عبدالحى، الذى أغرق مصر بأطنان من الفراخ الفاسدة، أكلتها أجيال متنوعة من المصريين.
هذه القضايا وغيرها منحت «الأداهم» انطباعاً بأنهم أمام رئيس يؤدى بشكل مختلف، وقد كان «مبارك» بالفعل مجيداً فى استحضار «عفريت الفساد»، وإطراب سامعيه بأحاديث لا تتوقف عن «الطهارة» و«نظافة اليد»، وغير ذلك من مفردات تشى برغبته الأكيدة فى محاربة الفساد، وهى الرغبة التى أثبتها من خلال فتح ملفات فساد الكبار، من فصيلة «القطط السمان»، وعلى رأسهم شقيق الرئيس السادات. ولا أستطيع أن أقرر على وجه الدقة هل كان «مبارك» يستهدف من هذه الإجراءات وصم عصر «السادات» والإساءة إليه، أم كان يعبِّر عن نهج يعكس رؤيته للتنمية ونظرته إلى الفساد كمعرقل لها بحكم نظافة يده وجيبه؟!، لكننى أُحيلك إلى كتاب محمد حسنين هيكل «من المنصة إلى الميدان»، الذى أشار فيه إلى أن «مبارك» لم يكن بريئاً من بعض الشبهات حتى قبل أن يصل إلى الحكم. ويبقى أننا لو افترضنا أن «مبارك» فتح هذه الملفات من باب الإدانة لعصر السادات وليس من زاوية «البراءة أو النظافة» أو الوعى بمخاطر الفساد على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بالأدهمية، فيمكننا أن نخلص من ذلك إلى أن «مبارك» فعل فى عصر السادات نفس ما فعله «السادات» فى عصر جمال عبدالناصر ونفس ما فعله «ناصر» فى عصر «فاروق». ويبدو أن ذلك يمثل طقساً أدهمياً بأن يدين الحاكم الجديد من سبقه على عرش الأدهمية.
لكن من زاوية أخرى مثّل الحديث المفرط عن الفساد خلال السنوات الأولى من عصر مبارك تمهيداً لتحول جلل فى «أخلاقيات الأداهم». فالأحاديث المستفيضة عن عدد مَن خرجوا مليونيرات من عصر «السادات» والملايين المملينة التى أصبح محاظيظ الأداهم يكنزونها فى أراض وفيلات ومشروعات وتوكيلات وأموال سائلة، وهى الأحاديث التى لم تقترن بمحاولة جادة لمحاربة الفساد فى عصر مبارك، كما اكتشف الكثيرون فيما بعد، جعلت البسطاء يتأملون المشهد من زاوية فريدة من نوعها. فقد رسخت فكرة لدى بسطاء «الأداهم» ملخصها أن الفساد أصل من أصول الحياة داخل الأدهمية. والفارق بين مَن قضت المحاكم بفساده أو تمكن من أن يفلت بنهيبته وبين الفقير الذى يزعم الشرف، أن الأخير لم يجد فرصة للفساد، وفى اللحظة التى سيحصل عليها سوف يغتنمها دون تباطؤ أو تفكير. اقتنع الكثيرون أن الشريف هو مجرد فاسد يمكث فى انتظار فرصة.