بقلم: د. محمود خليل
عندما أمر المولى عز وجل نبيه «إبراهيم» بذبح ابنه «إسماعيل» وصف هذه المحنة بقوله تعالى: «إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ» (سورة الصافات - الآية 106)، أى إن هذا هو الاختبار الواضح الذى يقطع الشك باليقين. ويحكى القرآن الكريم أن نبى الله «إبراهيم» تعرض لابتلاءات واختبارات متنوعة، من بينها مخاصمة ومعاداة أبيه عابد الأصنام، وتربص قومه به إلى حد أن أوقدوا له ناراً عظيمة ووضعوه على المنجنيق (وهى آلة قديمة كانت تستخدم فى قذف الحجارة الضخمة)، وقذفوا به فى النار، فجعلها الله تعالى برداً وسلاماً عليه، ثم تعرض لابتلاء مواجهة الحاكم: «النمرود». كل تلك الابتلاءات لم تعدل فى نظر الخالق الابتلاء الذى تعرض له «إبراهيم» حين أمره الله بذبح ابنه؛ فقد أنجبه فى كبره، بعد أن تجاوز الستين من عمره، فتعلق به تعلقاً شديداً. وبالتالى كان بلاء «إبراهيم» عظيماً حين أمره الله بأن يذبحه بيديه.
فكرة «البلاء المبين» بإمكانها أن تفسر لك «أوضاع الإخوان» بعد ثورة 25 يناير 2011، مع الفارق فى التشبيه بين نبى الله إبراهيم الذى كان أُمة وحده، وجماعة الإخوان التى توظف الدين لخدمة أهداف سياسية. لقد امتطت الجماعة صهوة «المنجنيق» وقررت أن تلقى بنفسها فى نار الابتلاء والبلاء المبين، حين وضعت «الفكرة» التى تأسست عليها على المحك، وهى الفكرة التى يلخصها شعار «الإسلام هو الحل». تعرضت الجماعة قبل ابتلاء «الفكرة» لصنوف شتى من الابتلاءات، كانت تصب جميعها فى إطار «ابتلاء التنظيم»، اغتيل مؤسسها ومرشدها الأول الأستاذ «حسن البنا» عام 1949، وطورد أعضاؤها أواخر عهد الملكية، وعندما قامت ثورة يوليو 1952، كانت الجماعة «الظهير الشعبى» لمجلس قيادة الثورة، لكنها شاءت أن تنافسهم على التهام كعكة الحكم، فلم يمكنوها من ذلك، وقام «عبدالناصر» باصطياد الإخوان عام 1954، فتم تعليق بعض قادتها على أعواد المشانق، وحكم بالسجن على آخرين، وحصدت الاعتقالات الآلاف من أعضائها، وتكرر المشهد نفسه عام 1965، مع ظهور تنظيم «سيد قطب»، ورغم أن الرئيس «السادات» سلك مسلكاً مختلفاً مع الإخوان، إلا أن سنوات العسل بينهما لم تدم طويلاً، فسرعان ما انقلب عليهم وانقلبوا عليه، فنكّل بهم فى سبتمبر 1981، ثم حدِّث ولا حرج عن أيام «مبارك» الذى كان يلعب معهم لعبة القط والفأر.
كل هذه الضربات التى تم توجيهها إلى الإخوان على مستوى «التنظيم» لم تضعفها، بل استثمرتها الجماعة فى بناء مظلومية تستهدف دفع الشارع إلى التعاطف معها، وأظهرتها طيلة العقود الماضية، وكأنها الخصم الألد لـ«مبارك» ومن سبقه، الأمر الذى هيأ الظروف لهم للوصول إلى الحكم بعد أن أطاحت به ثورة يناير. فرح الإخوان بالسلطة، وانطلقت جماعتهم وحزبهم ورئيسهم يمكّنون لأنفسهم فى كل اتجاه، وتناسوا فى غمرة اللهث وراء السلطة، أن الناس تراقب أداءهم فى الحكم بدقة، وتنتظر منهم تفعيل الحلول السحرية للمشكلات، تلك الحلول التى تاجر الإخوان بها لعقود طويلة، وبنوا شعبيتهم عليها، وما أكثر ما اشتكوا من رفض مشروعهم الإسلامى من بعض المصريين، رغم أنه يمتلك حلولاً لكل المشكلات.
بعد وصول الجماعة إلى الحكم بدأ المصريون يسألون: أين الحلول التى وعدتمونا بها؟. لم تملك الجماعة إجابة عن السؤال، ومرت عليه بلا مبالاة ودون أن تستوعب أنها دخلت مرحلة «البلاء المبين»، مرحلة اختبار الفكرة والمشروع الذى ظلت تروج له سنين عدداً. لقد مكثت الجماعة خمسة وثمانين عاماً تحلم باللحظة التى تصل فيها إلى الحكم، وعندما بلغت المراد لم تدرك أنها أصبحت قيد التآكل، وأنها اتخذت، بإصرارها على الاستيلاء على السلطة، قرار انتحار.